بعد هذه الحياة العلمية الحافلة، والتي درست فيها السياسة ودرستها بما يزيد عن أربعين عاما، فإنني بحق أجد نفسي أمام هذه الحقيقة المرة التي تتعلق بفتنة السياسة، وفتنة السياسة هي فتنة في المفهوم وفتنة في التنظير والتنظيم وفتنة في الممارسة والحركة، فتنة السياسة طالت الكبار والصغار ومست الشيوخ والشباب ووصلت إلى العصب والعظم، كما أكدت مرارا وتكرار فإن
الثورة كانت كاشفة فارقة، ويبدو أن واحدا من معاني الفتنة التي صاحبت حال الثورة هي عرض الذهب على النار فيصفى من كافة شوائبه، وصلت الثورة في تأثيرها إلى هذا الحد، ومن ثم فإنني حينما أكتب عن
الشباب وعن النقد الذاتي فإنني أعتذر لهم إن كنت قد قسوت عليهم هنا أو هناك.
ففي عميق وجداني وقرارة فؤادي، وما وقر في إدراكي وعقلي أن فتنة السياسة لم يصمد فيها الكبار في معظمهم، فكيف يصمد الشباب؟! زلزال الثورة بتوابعه أتى على كل الناس وزلزل الأفكار، وتغيرت المواقف وتبدلت الأحوال، وانقلب المنقلبون وسقطت الأقنعة، بل وتعبت من السقوط.. كل هذا في فترة وجيزة كثيفة، ثقلت أحداثها على النفس فلم تتحمل ولم تستطع المراوغة، فما بالك بالشباب وقد تيقن أن ثورته هي أمل التغيير، وأن الانقلاب والثورة المضادة عليها هي محاولة لوأد هذا الأمل في المهد وبلا رحمة. وعلى هذا، فإنني شديد الأسى والاعتذار بجيل الشباب حينما خذله الكبار الذين لم يخلوا بين الشباب وأملهم في التغيير، وتصدروا ولم يكونوا أبدا كفؤا للقيام بالتغيير، هذه هي صلب القضية.
هو سجين محبوس يتحدث عن هدف التغيير المنشود ناقدا آملا، في عمل الوعي ووعي العمل يكون هو "التفكير في تطوير الهدف المنشود من المساعي التي ننخرط فيها، فلعله لم يعد كافيا أن ينحصر تفكيرنا في زوال هذا الشخص أو ذاك، مع بقاء بقية العوامل كما هي عليه. أقترح أن نمد النظر إلى شيء وراء ذلك وأشياء على جوانبه. الأصل في التغيير التدرج والتراتب.. فالقادم قريب من الحاضر، والأمة المستباحة من جهة، والناهضة المنتفضة من جهة أخرى، الأمة المحاصرة المجتاحة من جهات عدة داخلها وخارجها، والمقاومة المحتضنة والمنذرة بانفجارات في مواضع عدة".. كل ذلك يجب أن يحسب حسابه في معادلات التغيير.
ويواصل كلامه: "من المهم توسيع النظر إلى هذه الجهات كيف يحدث التغير والتغيير، كيف تتغير الأمم؟ وأخلاق الحضارة وقيم الحياة؟ كيف تتغير التصورات عن المستقبل المأمول؟ مقادير الأمل والعزيمة ومقادير اليأس والإحباط؟ عالم البحث العلمي النظري والتطبيقي، عالم الموارد وإدارتها، عالم المشاعر الاجتماعية والأفكار والتفكير لدى الناس وطوائف المختصين.. كيف تتغير هذه الأمور؟ عالم الأمن والجيوش وحاملي السلاح وأرباب القوة.. كيف يتغيرون، وكثير مما هو من هذا القبيل..؟ نحن الباحثين بحاجة إلى أن نجند عقولنا وأقلامنا لخدمة التغيير الإيجابي في أمتنا، وأن نؤوب إلى مواقعنا وحصوننا المهددة من الداخل والخارج معا، وأن نتحمل مسؤوليتنا أمام الله تعالى عن نصرة الأمة والإنسانية من وراء ذلك".
ويبدي ملاحظاته "..على أجندة الاهتمامات، فهي تبدو جزئية مشرذمة لاهثة وراء الجاريات اليومية، متبدلة مع الحادثات الطارئة، مقودة أكثر منها قائدة، مستمرة على حالة رد الفعل، مقصرة في فتح مساحة مختارة مخططة منظمة تتيح بدورها قيادة مجالات أو فاعليات والإمساك بزمام المبادرة في أفكار أو مسارات عملية. إن جهدا هادئا مطلوب من أجل إعادة النظر في أجندة الاهتمام وطرائق التعاطي معها، من مكيدة الوسائل على مستخدميها. فوسائل الإعلام والتواصل على أهميتها البالغة في هذا المضمار والصراع الراهن، لكنها حصرت في الوقت ذاته وحجمت إمكانات أوسع للتفكير والحوار والطروحات الأعمق والأدق، وما قام به غيرك (من رواد الإعلام والتواصل) فلا تشغل به نفسك، وكل منا على ثغرة يجب أن يتقن دوره وأداءه فيها، حتى لا نؤتى من قبله".
وإذا كان هذا الكلام أو مثله يمكن أن يوجه إلى هذا أو ذاك من أهل الاجتهاد والنضال، فإن الخبراء والعلماء والباحثين وطلبة العلم المتدرجين في الشأن السياسي لهم منه النصيب الأوفر من الاهتمام، فلا شك أن جزءا كبيرا مما فيه الناس والأمة من حيرة نحن عنه مسؤولون، وما جرى من اختلالات واضطرابات نحن باحثي السياسة نتحمل فيه مسؤولية خاصة، نسأل الله تعالى أن يعفو عنا.
ويذكر العاملين والباحثين في حقل السياسة ".. كثيرون منا انخرطوا في مجريات وأجواء الثورات العربية، وانفعلوا بها، وعاشوا أحداثها صغيرها وكبيرها، وسئلوا وأجابوا، وأدلوا بآرائهم في هذه وتلك من عظائم الحوادث وصغارها. وآن الأوان لكى نقف ونراجع أنفسنا وأداءنا والأدوار العديدة التي أديناها ولا نزال، وقفة واجبة اليوم خاصة بنا نحن باحثي السياسة، ماذا فعلنا؟ وكيف نقوّمه؟ تقديرا وتجديدا، حتى نعدل أول شيء في أنفسنا وعلى أنفسنا (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم..)، ونجدد معنوياتنا وأذهاننا وقوائم اهتماماتنا، وخططنا البحثية - العملية - التغييرية، ونحدد زاويا نظرنا ومجاهر رؤانا وأطرنا التحليلية وأدواتنا اللازمة للإمساك بالواقع فقها، والعمل فهما وترشيدا. ما أقترحه أن نراجع موقفنا العلمي ودورنا المتخصص ومدى جدواه على الأمة في كبوتها أو أزمتها الراهنة.
ويقترح ميثاق السياسة من أهلها: ".. المقترح هو اجتماع كلمة باحثي السياسة المنتمين لهذه الأمة المؤمنين بضرورة "التغيير"، تجتمع كلمتهم على العمل البحثي الجماعي الواصل بين تجديد العلم وترشيد العمل، بين تجويد الفكر وتجويد الحركة، وهنا أقترح بعض الأمور:
- إعلان مبادئ علمية (من حقل
العلوم السياسية بأفرعه) يتضمن بيان الدور الحيوي للعلم، وعلو قدمه على الجميع، وأنه لا يحابي أحدا ولا ينبغي له، ولا ينحصر في خدمة مؤسسة عسكرية أو عصابة سياسية أو جماعة دينية أو طائفة مذهبية أو فئة اجتماعية أو طبقة اقتصادية أو مدرسة فكرية، وأنه قاض وحكم يجب تحكيمه، وأن العلم شاهد على الخلق بالحق، لا يقبل منه الانتظار حتى يستشهد، ولا يكتم الشهادة.
- إن علم السياسة حق لا وهم، وأنه يقوم على حقائق لا تخيلات ولا تكنهات ولا توهمات، وما يدخل عليه من افتراءات وادعاءات من اليسير من الواجب بيانها وفصلها وكشفها والنعي على أهلها، وأنه لا يحق للساسة الفاعلين على الأرض من أيه جهة ومختلف الأطراف أن يدّعوا أن السياسة فن لا علم فيه، وأنها حكر على عقولهم وأفكارهم وخبراتهم (مع احترامها) فقد عرفت الأمم قديما وإلى اليوم أن السياسة - أيضا- علم، وعلّم الله تعالى الأنبياء سياسة الأمم والأقوام لا الأهواء.
- إن التحيز الأساسي للباحثين في العلوم والشؤون السياسية إنما هو لثوابت ومصالح أمتهم، وقواعد علمهم، وأن هذا لا يمنع من الانفتاح على الجميع والاستماع من الكل، وهذا يعنى أول ما يعنى أن لباحثي السياسة ثوابت وقواعد وأصولا يستندون إليها وينطلقون منها، ومناهج ينظرون بها ويتناولون بها قضايا الأمة وأقطارها والعالم وإنسانه. وليس الأمر هكذا على عواهنه؛ يسوغ فيه كل قول أو يقبل كل ادعاء. ويجب احترام كل ذلك، ولا يقبل الاستخفاف به إعراضا عنه، أو خوضا فيه بغير أساس. وبناء عليه، فلنا أسس ومنطلقات (علمية) ومناهج وأدوات (علمية)، وأجندة اهتمام (انتمائية شاملة وتفصيلية) وبتيسير اللغة التي نتداول بها بيننا ونتواصل بها مع الأمة، بغير إغراب ولا استعلاء، وأن نيسر ما نتوصل إليه لنوصله إلى المجتمع والجميع".
هذه الفتنة (فتنة السياسة حينما نستعرض بعض أفكار الشباب، خاصة من باحثي العلوم السياسية حول عالم أحداث الثورة والخروج من الأزمة الطاحنة التي طالته)، فإنها تعبر عن قدر إيجابي مما أشرت إليه آنفا من نضج في أفكار بعض الشباب لم يبلغه الكبار. ومن استمساك بالأمل حينما فرط فيه أهل الحكمة من الشيوخ، وبادروا الى الاستمساك بثورة واستئناف العمل لها حتى لو طالت المدة وتعقدت عملية التغيير. إنهم يريدون أن يحملوا الأمل ليس لهم ولكنهم يحملونه ربما لأولادهم، إن الثورة حينما تملأ على الشباب حياتهم فيلحقونها بمفهوم التغيير، ويجعلون هذا الشأن ليس مجرد انفعال عابر أو تمرد مؤقت، ولكنهم هذه المرة يحسبون للتغيير حسابه ويتعرفون على سننه، ويعملون بنضج في التفكير والتدبير والتغيير والتأثير. أقول ذلك وأنا متيقن بعد أن سردت لرؤية أحدهم وهو في سجنه، فيتحدث ليبث الأمل للتغيير وفي أقرانه من الشباب. إنه النضج في المقاومة والمواجهة، في النهوض والتغيير، في الوعي والسعي.