ستة أسابيع على انطلاقة فعاليات
مسيرة العودة الكبرى، ولا زال الدم
الفلسطيني ينزف. ستة أسابيع والمجتمع الدولي غير آبه بالقتل
الإسرائيلي الممنهج، يُقدم الفلسطيني التضحيات تلو التضحيات، والعالم السياسي على استحيائه، لا بل انقياده الواضح. المسيرة، كأي جهد إنساني جماعي، لها وعليها، حتى وإن برزت إيجابياتها، تظل بحاجة للتصويب والتجويد، كي تحقق الأثر المطلوب. ما نسرده في مقالتنا لا يعبر عن انتقاد، بقدر إسهامه في حالة النصح العام، عبر رصد الوقائع، وملاحظة تطورها، وتفاعل العالم معها، على أمل سد أي ثغرة أو فجوة قد ينفذ من خلالها الكاره.
سياق المسيرة يأتي في ظرف سياسي حرج، فصفقة القرن على الأبواب، والثوابت العربية تآكلت لدرجة أن ضحى بها أصحابها، ما ترك الفلسطيني وحيداً في مواجهة وقائع ميدانية وسياسية، مع ما تعنيه من مساحة سيطرة على الحالة الفلسطينية، وتفاعلاتها الداخلية والخارجية، لأجل غير معلوم. وبما أننا ندرك حجم الإستفادة الإسرائيلية من الواقع الفلسطيني القائم، فمن الضروري امتلاك تصور ثوري، يقلب الطاولة، ويخلط الحسابات، لا سيما توفير مساحة مناورة لازمة، تعود بالنفع على المواطن أولاً وأخيراً.
أولى هذه التصورات ما يتعلق بالشعبية، وضرورة خلو المسيرات من أي طابع حزبي أو رسمي. والهدف هنا لا يرمي إلى سلخ التنظيمات عن حاضنتها الجماهيرية، أو حجب تلاحمها، بقدر ما يدعو إلى ضرب قدرة إسرائيل على التخطيط والتنبؤ، وبالتالي ممارسة ضغوط ناعمة وعنيفة، مستمدة من بنك أهداف معد مسبقاً. إن حضور هوية صريحة تقليدية للفعاليات، يمنح إسرائيل هامش تصرف واسع، لا سيما إذا أمتلك العنوان ما يخسره، بعكس غيابه، وما يترتب عليه من طريقة عمل مقيدة، تجذب "الإسرائيلي" إلى ملعبنا، دون أن نلج خاصته. ولأننا نعلم أن الجهد الشعبي يحتاج إلى توجيه، فقدرتنا على تصدير قيادات شابة حضرت على مدار تاريخنا، ولا أجد ما يمنع تكليف المؤهل منها لتصدر الحراك، متحررةً في الوقت ذاته من أي إرث سابق قد يعيق همتها وفاعليتها.
على الوجه الآخر، أي حراك بهذا المستوى يحتاج إلى تحديد مقاصده، وبالتالي أدواته. وفي حالة المسيرة، فالأهداف غير واضحة، أو غير معلن عنها على المستوى التكتيكي، وما ترفعه من لافتة "عودة إلى الديار" مرتبط بجهد استراتيجي يصعب إنجازه ميدانياً إلا وفق رؤية وتخطيط طويل الأمد. وعلى هذا، فمن الضروري تبني خطاب يدل على الغايات، مستنبط من قراءة واقعية، يحقق مطلب كرفع
الحصار، أو استعادة حدود قطاع
غزة التاريخية. وبلغة المفاوضة، قد نُجادل، حول مبدأ رفع سقف، وقدرته جباية مكاسب متحكم بها. وهنا ندفع بالقول بأن المبدأ صحيح في سياق تكافؤ قوة نسبي، بعكس حالتنا، التي يميل فيها الميزان لصالح الآخر، مع غياب أي نية دولية للإصغاء، كون مطلب "العودة" يمس بأصل الوجود اليهودي في فلسطين، وما يستحثه من حرب شاملة، لا نملك مفاتيحها حالياً. إذن، تحديد السقف ضروري، وفيه من الإيجابيات الكثير، خاصة قدرتها احتواء دعاية الخصم، عبر انتهاجها مسلك الواقعية في مخاطبة إحتياج ورغبات الجمهور.
وفيما يخص أطروحة الخصم، وحملته الدعائية المترامية لإخراج المسيرات عن سياقها، وربطها بحركة حماس، فمن الواجب تكريس مبدأ مركزية التخطيط والتوجيه، وأن نبدأ حملة لبناء وعي جماهيري جمعي، يعمل على توظيف قدرات "المواطن الصحفي" في اتجاهه الأمثل، كي يخدم المسعى، دون أن تستغله "إسرائيل" لصالحها. فبتفحص سريع لصفحات إسرائيل الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي، لن نعجز رصد استغلالها لبعض ما ينشره الافراد، بوعي أو بدونه، خدمةً لحملتها الدعائية. وفي هذا السياق، من الواجب تجنب أي مظهر عسكري، يخرج المسيرة عن سكتها السلمية، أو يغذي آلة التبرير الإسرائيلية بكونها تواجه عنف مفرط، لا تستطيع معه إلا المشابهة. لذلك من غير المقبول أن نضحي بانتصارات إعلامية على المستوى الخارجي، من أجل إشباع رغبة هنا أو هناك، لا سيما وأن حالة تلاحم مع الرواية الفلسطينية بدأت تغزو صحافة العالم.
إن ما تحققه المسيرة عظيم، ومدعاة للفخر لنا جميعاً، لا سيما إعادة الملف الفلسطيني إلى الواجهة، وصعوبة تجاوزه أو تجاهله عند أي مغامرة أو مقامرة مستقبلية. وبرغم مدخلها الإنساني، إلا أنها كافية للاطمئنان حول قدرتها تحقيق منجزات تستجيب لتطلعات الجمهور، وإن شابتها بعض العثرات. وكما يقال، لا يوجد جهد إنساني مثالي، فالكمال لله وحده.