ليس بالأمر الهين أن تجد نفسك فجأة تسير في الاتجاه المعاكس للجماهير، فهي في هذه الحالة تكون مستعدة لسحقك دون النظر لهويتك ومكانتك وتاريخك. وفي أحيان كثيرة، تجد نفسك مخيرا بين أمرين أحلاهما مر: إما أن تغير اتجاهك حتى تساير التيار فتنجو بنفسك، ولكن على حساب قناعاتك، أو أن تواصل طريقك غير عابئ بالضغط الشديد المسلط عليك، فتقبل مصيرك على أمل أن ينصفك التاريخ. وفي كل الحالات، يجد المرء نفسه في محنة شديدة وقاسية. لا يرحمك إلا النزر القليل، ولا يتفهم مواقفك إلا من رحم ربك. وتقرأ أو تسمع ما تكره من أشخاص لا يعرفونك من قرب، ولم يسبق أن تبادلت معهم رأيا أو فكرة أو حتى دردشة، ومع ذلك يهاجمونك بحقد وبعنف رمزي رهيب، ويقررون دون تردد أو تمحيص أن يسحبوا منك كل ما هو ثمين عندك: الإيمان والوطنية والأخلاق والوعي والوفاء.
أما الأشد قسوة من كل ذلك مواقف من كنت تحسبهم من صفك، أو اشتركت معهم في جزء من مسارك، وانخرطت معهم في نضال مشترك أو في مغامرة ما. لكن في لحظة المواجهة تراهم يصمتون، أو يختفون من الشاشة، أو ينقلبون عليك، وقد تجد منهم من ينخرط مع القوم في نهش جسدك الرخو دون تردد أو إحساس بالإثم، بل قد يبلغ بهم درجة التلذذ بتشويهك والإسراع في التخلص منك في أقرب وقت وبأكثر الوسائل قذارة وتوحشا.
هناك من سمح لنفسه بترويج إشاعة خبيثة لا تمت بصلة بالأخلاق الإسلامية السامية، وذلك عندما قيل بأن الحداد عاقبه المولى سبحانه وتعالى بأن أصابه بداء قاتل عقابا له عن دفاعه عن المرأة!!
تحضرني صورة شاب عاش خلال الثلث الأول من القرن العشرين في العاصمة
التونسية، اسمه الطاهر الحداد. تعلم في الزيتونة وحصل على شهادة علمية، ولأنه (بحكم انتمائه الاجتماعي)، كان وثيق الصلة بالأوساط الأكثر عرضة للتهميش والاستغلال، وهم العمال والنساء، فقد قرر أن يكتب عن هؤلاء. ولكنه عندما أصدر كتابه الشهير "امرأتنا في الشريعة والمجتمع"، كان يظن بأنه سيساهم في خدمة شعبه وبلده، لكنه لم يدرك في تلك اللحظة بكونه قد وضع قدمه على لغم سرعان ما انفجر وأدى إلى مصرعه وعمره لم يتجاوز 36 عاما. لقد تنكر له الجميع تقريبا، واهتزت المؤسسة الزيتونية والقضائية بكل أركانها، وسارعت باتهامه بالكفر، وجردته من الشهادة التي سبق أن منحهتها له، اعترافا من أساتذته بأنه أهل لها. لكن ما قهر الرجل وسحقه نفسيا أمران، أولهما تأليب الشارع ضده، بما في ذلك الفئات التي دافع عنها، حيث هاجموه في كل مكان حتى اضطر إلى الانزواء في بيت صغير، أما الأمر الثاني الذي لم يترك له مربعا صغيرا ليتنفس منه؛ فهو غياب أصدقائه إلا من رحم ربك؛ عندما اشتد به المرض، وحتى خلال موكب جنازته التي لم يحضرها سوى عدد قليل جدا من الأفراد، وغاب عنه الكثيرون، بمن فيهم الزعيم الحبيب بورقيبة الذي، رغم إيمانه بكل حرف كتبه الرجل، إلا أن الحسابات السياسية قد طغت في لحظة الوداع الأخير. والأسوأ من كل ذلك، أن هناك من سمح لنفسه بترويج إشاعة خبيثة لا تمت بصلة بالأخلاق الإسلامية السامية، وذلك عندما قيل بأن الحداد عاقبه المولى سبحانه وتعالى بأن أصابه بداء قاتل عقابا له عن دفاعه عن المرأة!!
الطاهر الحداد في عز شبابه، لكنه دخل التاريخ بعد عشرين سنة من وفاته، وهو ليس سوى مثال من مئات الأمثلة التي عرفها التاريخ. لا يعني ذلك أن المصلحين فوق النقد، وليسوا بدون عيوب أو أخطاء.. لقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا السياق: "كلكم خطاؤون وخير الخطائين التوابون"، لكنه لم يسمح لأي كان أن ينصب نفسه قاضيا على الآخرين، وأن يعطي لنفسه شرعية إصدار الأحكام بتكفير هذا وتخوين ذاك بحجة الدفاع عن الدين والمقدسات.
الطاهر الحداد في عز شبابه، لكنه دخل التاريخ بعد عشرين سنة من وفاته، وهو ليس سوى مثال من مئات الأمثلة التي عرفها التاريخ
من السهل جدا أن تكون محافظا في أفكارك، وأن تكون مقلدا، وإن كان هذا المنهج قد يخلق صعوبات لأصحابه عندما يجدون أنفسهم في موقع الأقلية والأشد ضعفا. لكن مع ذلك فإن محاولة التمرد على ما استقر في النفوس وفي الواقع حتى وإن اكتسب قدرا من "الشرعية" التي تكون أحيانا شرعية زائفة تستمد قوتها من قوة التراث والعادة، تجعل من أصحاب هذه المحاولة أكثر عرضة للسحل المعنوي عندما يفصحون عن آرائهم ويخرجون من دائرة الصمت والتكتيك إلى دائرة الوضوح والعلن.
مهما كان حجم الخطأ الملازم لكل اجتهاد، فإنه لا يبرر اللجوء إلى الاغتيال بشكليه: الاغتيال الرمزي أو الاغتيال المادي
أما السياسيون الذين يقتاتون على عثرات خصومهم، ويبنون مجدهم المزعوم وأحلامهم الصغيرة والمؤقتة على حساب من يخالفونهم الرأي، فعن هؤلاء حدث ولا حرج.
مهما كان حجم الخطأ الملازم لكل اجتهاد، فإنه لا يبرر اللجوء إلى الاغتيال بشكليه: الاغتيال الرمزي أو الاغتيال المادي، إذ كلاهما جريمة لا تقرها الأخلاق ولا يبيحها القانون؛ لأن الرغبة في تصفية الآخر ليست سوى محاولة لتسريع فتح الأبواب أمام العنف والحرب.