في
مقالي السابق، حاولت أن أعيد النقاش في تقرير الحرية والمساواة إلى صواب، بعد أن وضع في سياقات عراك سياسي ظرفي مانع لتطوير الأفكار والمقترحات، خاصة بعد أن دخل التقرير وواضعوه من باب السلطة السياسية التي تفرض بقوة المؤسسة ولا تقنع بقوة الحوار. ومن هذه الزاوية، يتبين لي أن التقرير لا يهدف إلى إقرار الحرية ولا إلى
المساواة؛ بقدر ما يستفيد من موقعه في السلطة، ليعيد تشكيل الفرد
التونسي والمجتمع التونسي طبق نموذج واحد ووحيد يقضى على كل احتمالات التنوع الثقافي داخله، لذلك نراه تقريرا ضد التنوع وضد الحرية؛ لأنه يملك قالبا واحدا يصب فيه الناس فيكونون متشابهين طبقا لنظرة قانونية تسطر للناس خطى سيرهم، فلا يخرج أحد منه عن الصراط النخبوي.
العرف المزعج للقانون وأهله
في هذه الورقة اجتنبت الخوض في أحكام المواريث لأني غير مختص، وقد جر العالمون بفقهها النقاش إلى الزاوية الدينية الشرعية وتمسكوا بموقف النص الديني، بما قطع باب النقاش فيه، وبقي الفريقان في انتظار معركة دامية. لكني أحاول مناقشة بعض المقترحات التي تحاول قطع العرف السائد، وتحويل كل ممارسة متفق عليها ضمنا إلى نص قانوني يدخل الأفراد تحت قانون العقوبات، حيث سيتبين هنا نمط تفكير من كتب التقرير وصورة المجتمع في ذهنه المصبوب في قواعد القانون الشكلي.
سأتناول هنا العرف المتعلق بعدة الزوجة، والذي كان التقرير تطرق له في باب عدم المساواة بين الرجل والمرأة؛ واضعا الجدل حوله من زاوية أن ليس على الذكر عدة بينما فرضت على
المرأة، فيعتبر تمييزا بالدونية معاديا للمادة 16 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والتي قبل بها القانون التونسي فألغى العدة.
العدة إجراء متولد من حرص المسلمين (العرب) على نقاء النسب، وهو عرف سابق للإسلام جاء الإسلام فكرسه. من هذا العرف الثقافي والقانوني جاءت كثير من الأحكام المتعلقة بالعلاقة بين الرجل والمرأة، ومنها عرف العدة التي تضمن نسبة الأبناء إلى آبائهم تحديدا، وتبرئة المرأة من خلط الأبناء بين أبوين سابق ولاحق. فلا ذنب للسابق أن يخسر ابنا، ولا ذنب للاحق أن يربي ابنا ليس من صلبه.
هل نستعيض عن العدة بتقرير طبي؟ إن هذا ممكن تقنيا، وإن كان هذا الفحص حتى الآن مكلف جدا ومعقد جدا (ستنقل كلفته طبعا على الدولة، فتضاف إليها وظيفة جديدة في زمن المطالبة بتجاوز الدولة وفكرتها المعادية للحرية). لكن واضعي التقرير يغفلون عامدين العرف المتعلق بأهمية الأنساب. وسنبين بعض التقاليد (الأعراف المعمول بها حرصا على النسب).
كان من تقاليد الأسر التونسية أن تمر الزوجة الحامل تحت نعش زوجها إذا كانت حاملا عند وفاته، وكان يسبق ذلك إعلام من النساء للرجال المهتمين بإجراءات إعداد الميت للدفن، فيوضع النعش في فضاء مفتوح تحت الأنظار، فتخرج الزوجة الحامل متغطية فتمر تحت النعش المسجى، فيكون ذلك إعلاما بحملها وولادتها لاحقا، أي بنسبة من في رحمها لأبيه المتوفى. لم يكن في هذا نص قانوني ولا تقرير طبي ولكنه عرف إعلامي وإقرار نسب. نظمه العرف والعادة من منطلق الحرص على نقاء الأنساب. وربما لهذا السبب بالذات صمم النعش على محامل مرتفعة ليسهل المرور تحته، لا على شكل صندوق مغلق بلا محامل.
وكان من بعض تقاليد الأسر والعروش التي يقبلها العرف، رغم أنها تخالف الطبيعة البشرية، ما يسمى بفقه الراقد. وهو أن تلد المرأة ولدا بعد مرور أكثر من تسعة أشهر على وفاة الزوج، فيغض المجتمع الطرف عن مخالفة الطبيعة، ويبرر بأن الحمل كان راقدا ثم استيقظ ونزل، فينسب لأبيه ما لم تتزوج أمه. إنها فتوى شعبية سكت عنها الفقه وبررها المجتمع، منطلقا من أهمية النسب لا رغبة في تمييز المرأة، بل هو تبرير فيه حفظ لسرها أو ضعفها.
تبدو هذه الفتاوى خارج المنطق القانوني والفقهي أيضا، لكنها مقبولة ضمن منطق حفظ الأسرة والأنساب، وهي مقدمة على الفصل القانوني والجنائي الذي يعمل التقرير على تقديمه.
هنا تتضح منطلقات التقرير ومنطلقات العرف المحلي (الثقافي) المرجعي.. إنه اختلاف مرجعيات في الأصل. ويتخذ التقرير مرجعيته في القانون الدولي، مغفلا مرجعية التطبيق على المحلي، بما يجعله نصا أو مشروع نصوص توحد الناس بالقوة القانونية ضمن نص كوني شامل لا علم له ولا قدرة له على تقبل الاختلاف الثقافي، أي أن منطقه منطق توحيد مانع للتنوع.
منطق قانوني شكلي يصوغ الناس في قالب واحد لا تنويع عليه. إنه منطق من تربى على صناعة القانون، حتى غفل عن العرف فذهب في ظنه أن كل ما ليس نصا شكليا لا قيمة له، ثم في لحظة من لحظات الفعل يدمغ العرف بالتخلف ويكسب النص نفسه صفة التقدمية، فيدخل الجدل في أيديولوجيا تقدم معاد ومقاوم للتخلف. فإذا ملك التقدمي السلطة السياسية بين يديه وحولها إلى أداة فرض؛ عدنا إلى منطق تغيير المجتمعات بالنصوص المفروضة، فيحصل لها من الرفض العاطفي، ما يجعلها غريبة ومحل مقاومة بالإمعان في العرف.
القانون الدولي لا علم له بأعراف الشعوب، بل هو قائم ضدها، بما يجعل الحريات حرية واحدة، والمساواة قالبا جاهزا يرفض كل تنوع صنعته الأجيال طبقا لحاجتها الآنية المحلية الخاصة؛ التي تبني على تيسير حياتها لا على تعقيدها. فالحياة سابقة على النص، وليس النص من يحدد الحياة.
وعندما ندفع النقاش في التقرير إلى مداه في بعض الشكليات الأخرى (التي يريد التقرير تقنينها)، سنجد نفس المنطق التوحيدي المتجاهل للعرف. فقبل ظهور سجلات النفوس (دفاتر الحالة المدنية)، كان التصريح بالولادة نسويا بحتا عبر الزغاريد، فيعلم الزوج ثم المجتمع بجنس مولوده من كثرة الزغاريد. وحتى أول الثمانينات، كان عمدة المنطقة في القرى التونسية يذهب من تلقاء نفسه للتصريح بمولود في بلدية بعيدة؛ يكفي أن يسأل الأب أو الأم عن الاسم الذي منح للمولود، ذكرا كان أم أنثى، ثم يكمل الإجراءات كجزء من مهامه الإدارية. والآن، وبعد أن صارت الولادة تتم غالبا بدون القابلة التقليدية، بل في مشفى خاص أو عام، يحدد القانون التصريح بزمن قريب لزمن الولادة يكون الأب فيه قادرا على ذلك، بينما تكون الأم النفساء لا تزال تتعافى، فيتمم الأب إجراء التصريح بالولادة وتسجيل المولود.. ليس في الأمر حق للذكر دون الأنثى. (في حالات الأب المهاجر، تتعافى الأم ثم تصرح بمولودها دون كثير انشغال، وضابط الحالة المدنية ملزم بقبول التصريح).
يبحث واضعو التقرير هنا عن مشكلة فيصطنعونها، ثم يدخلون إرادة الدولة وسلطتها بين الزوج وزوجه، مانعين كل تيسير أو عرف اتفق عليه الناس بصمت؛ لأن منطق الناس هو الإباحة لا التعقيد القانوني. كل منطق التقرير وخلفيته هو منطق أهل القانون الشكلي، وإن كان أعضاء اللجنة من أهل الأدب والفن. إنه منطق تولية الدولة على الحياة الخاصة التي رفض الناس دوما كشفها للحاكم.
المستقبل لأقل ما يمكن من الدولة
لم أتناول هنا إلا نقطة بسيطة من التقرير، وقد كانت كافية في تقديري لكشف "عقلية" واضعي التقرير وموجهي التشريع.. إنه منطق يعمل على وضع حياة الفرد تحت تصرف الدولة، أي أن تمنح لها سلطات رقابية وتوجيهية في داخل البيت الخاص.. بين المرء وزوجه وأبنائهما، مانعة كل اجتهاد خاص من أن يعمل على خلق السلم داخل الأسرة. فالإنفاق على البيت، ومنذ تملكت المرأة دخلا، صار مقاسمة، وفي أحيان كثيرة يقع العبء الأكبر على ذي الدخل الأرفع بين الأبوين. ولم ينتظر الناس تدخل المشرع ليقول بأن واجب الإنفاق على الأسرة محمول على الأبوين.
يمكن القول إن الناس لا يحتاجون المشرع في حياتهم الخاصة، ولذلك فإنهم مع تقدم الزمن يجعلون المشرع الذي يعيش من وضع النصوص (محترف تشريع) في حالة عطالة، أي بلا دور اجتماعي، فيصير هذا التقرير نوعا من الالتفاف على الاجتهاد الشخصي لفرض أجر يدفع لواضعي النصوص.
يذكرنا هذا ثقافيا بما كان يفرض الكهنة من ضريبة على الراغبين في الاتصال بالرب، وثنا كان أو قوة روحية. إذ على المؤمن المتوسل أن يمر بكوخ الكاهن أو كنيسة القس ليقدم القربان. أما إذا اتصل بالله دون علمهم، فيصبح في أفضل الحالات بروتستانتيا كافرا ببابا روما.
كل مؤشرات التقدم في القانون الدولي تذهب إلى المزيد من تقليص سلطات الدولة على الفرد. وذلك آخر معاني الحرية، أي أقل ما يمكن من الدولة لأكثر ما يمكن من الحرية.
تظهر كتابات كثيرة نطلع من عجز على قليلها، تذهب كلها إلى أن مجتمع اللادولة قادم بخطى حثيثة. التطور الفرداني يتسع، بينما يذهب تقرير اللجنة باسم الحرية إلى تقليص حرية الفرد. ومن غريب المصادفات التاريخية، أنه في زمن وضع دستور في تونس يحد من سلطة الدولة المركزية ويحيل السلطات إلى الحكم المحلي، حيث تتسع قدرات الفرد وتأثيره عبر الانتخاب المباشر ثم عبر الرقابة اللصيقة للإدارة (في الشأن العام)، تعمل لجنة منحت نفسها صفة التقدمية؛ على توسيع سلطات الدولة على تقنين الحرية مركزيا فتسير عكس تطور المجتمع وتطور تشريعاته.
لتمنح اللجنة نفسها ما تشاء من الصفات، فالعرف منتصر دوما، والناس لا يحتاجون شرطيا في غرف نومهم يحدد لهم من يبدأ الغزل قبل الجماع. إن ما يتم داخل البيت ليس تقدميا ولا رجعيا، إنه عاطفي، والعاطفة كالإيمان؛ لم تخضع أبدا لمنطق غير منطقها الخاص، حيث يكون الفرد سيد نفسه وموجه فعله.
في تونس قام إكلريوس الحداثة بفرض مسار الانتخابات على الثورة فأفرغها من زخمها، لكن الدستور جاء خارج منطق المركزية العزيزة على هذا الاكلريوس، وأفرغ مركزية الدولة من قدرته على مراقبة أطراف المجتمع. سيكون مصير هذا التقرير مشابها للحظة وضع الدستور ولن يمنح الفرد للدولة سلطة على غرفة نومه ومصروف بيته وتربية ولده.
وإذا كان التقرير متجها في باطنه (كما بينا في الورقة السابقة) لإرباك حزب سياسي ذي مرجعية دينية، فإن من سيرفضه ليس الحزب الإسلامي، بل الشعب المطمئن إلى أعرافه الخاصة، والتي نحتها عبر مسيرة تطوره الطويلة.، وستكون حالة من حالات تقدم الفرد على النخبة التي تفقد دورها. يكفي أن يذكر الاستفتاء الشعبي على هذه النصوص لتنتهي النخبة.