باشرت
إسرائيل استهداف الحضور النشاط التركي في
القدس المحتلة. بدأ الأمر مع
تسريب مريب لصحيفة "هآرتس" (28 حزيران/ يونيو) يتحدث عن شكوى
فلسطينية وعربية لتل أبيب من النشاط التركي المتزايد بالقدس، ومطالبة بتحجيمه ومحاصرته، ثم تطور الأمر مع نشر الإعلام العبري لخطط واستراتيجيات لمواجهة هذا الحضور، وصولاً إلى التطبيق العملي مع اعتقال المواطنة التركية إيبرو أوزكان لأسابيع، بتهم وحجج واهية، ثم أخيراً إصدار الحكم على
محمد مرتجى، ممثل جمعية تيكا في غزة، بالسجن ستع سنوات بحجة تقديم المساعدة لحركة حماس في القطاع المحاصر.
التسريب كان إشارة الانطلاق الإسرائيلية لاستهداف الحضور التركي بالقدس، في التسريب تحدث عن شكوى فلسطينية - أردنية - سعودية من هذا الحضور، وطلب من السلطات الإسرائيلية لتحجيمه ومحاصرته
تسريب "هآرتس" كان إذن إشارة الانطلاق الإسرائيلية
لاستهداف الحضور التركي بالقدس، في التسريب تحدث عن
شكوى فلسطينية - أردنية - سعودية من هذا الحضور، وطلب من السلطات الإسرائيلية لتحجيمه ومحاصرته. أعتقد أن التسريب كان متعمداً تحديداً لهآرتس، كونها يسارية معارضة للسياسة الإسرائيلية بشكل عام، ويؤخذ ما تكتبه على محمل الجدّ من قبل وسائل الإعلام، والجمهور الفلسطيني العربي بشكل عام، وأعتقد شخصياً أنه غير صحيح أو غير دقيق ومجتزأ. فالسلطة مثلاً غير منزعجة من الحضور النشاط التركي؛ كونه يصب في المصلحة الفلسطينية، وأنقرة والجمعيات التركية الإنسانية على تواصل مع فعاليات ووجهات فلسطينية إسلامية مستقلة، وحتى على علاقة جيدة بالسلطة. كما أنها تقدم خدماتها ومساعداتها لصالح المواطنين المقدسيين دون تمييز أو محاباة لهذه الجهة أو تلك، ببساطة تتعاطى الجمعيات التركية مع الجهات الفلسطينية الفاعلة مقدسياً.
أما سياسياً؛ فتنظر السلطة في رام الله بارتياح للسياسة التركية في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية بشكل عام، وملف القدس بشكل خاص، كما اتضح من المشاركة الرفيعة في المؤتمرات الإسلامية الاستثنائية الخاصة التي استضافتها إسطنبول. كما أن الرئيس عباس كان أول مسؤول أجنبي يهنئ الرئيس أردوغان بفوزه في الانتخابات الرئاسية بمجرد ظهور النتائج الأولية، وقبل إعلانها بشكل رسمي.
وحدها الرياض ربما تكون منزعجة من الحضور التركي في القدس في القضية الفلسطينية، كما من السياسة التركية العامة
أمر مماثل يمكن قوله عن الموقف الأردني تجاه المواقف والسياسات التركية، خاصة مع التأكيد الحاسم القاطع والمستمر على دعم أنقرة للوصاية الأردنية على المقدسات الإسلامية بالقدس، كما شاركت عمان (رغم الضغوط العربية) بمستوى رفيع في المؤتمرات الإسلامية الاستثنائية التي دعا إليها الرئيس أردوغان ضد قرار ترامب بنقل السفارة الأمريكية، دعماً للحق الفلسطيني العربي الإسلامي المسيحي في المدينة المقدسة. وأشك كذلك ولا أقتنع بأن تكون عمان منزعجة من الحضور التركي؛ كونه يصب في مصلحتها، ولا يسبب لها أي ضرر أو أذى.
وحدها الرياض ربما تكون منزعجة من الحضور التركي في القدس في القضية الفلسطينية، كما من السياسة التركية العامة في المنطقة الداعمة مباشرة للثورات وحق الشعوب في تقرير مصيرها، والرافضة للانقلابات والثورات المضادة، و"صفقة القرن" المدعومة سعودياً، ومع ذلك فإن الحضور السعودي ما زال خجولا في القدس، ولم يكتسب أي شكل مادي كي ينافسه أو يقصيه الحضور التركي.
تضمن التضييق بشكل أساسي على نشاط جمعية "تيكا" الإنسانية والمنظمات الإنسانية والإغاثية الأخرى العاملة في القدس، كما التضييق على زيارة وحرية حركة المواطنين الأتراك
عموماً، فقد كان تسريب "هآرتس" مجرد إشارة على بدء
الاستهداف الإسرائيلي للحضور التركي بالقدس، والمنطلق من أسباب إسرائيلية ذاتية، ولكن مع الادعاء أو الزعم بأن ذلك جاء بناء على طلب جهات فلسطينية وعربية لتسويغه، أي الاستهداف، وجعله مقبولاً، كما لبث مزيدٍ من الفتنة والفرقة، ودق إسفين بين
تركيا والسلطة الفلسطينية والأردن تحديداً، وهي الجهات المعنية أكثر من غيرها بالمدينة المقدسة وصراع النفوذ فيها.
الاستهداف الإسرائيلي تضمن التضييق بشكل أساسي على نشاط جمعية "تيكا" الإنسانية والمنظمات الإنسانية والإغاثية الأخرى العاملة في القدس، كما التضييق على زيارة وحرية حركة المواطنين الأتراك المكثفة في المدينة في الفترة الأخيرة.
في هذا السياق، تأتي فبركة القضية ضد
المواطنة التركية "إيبرو أوزغان" باتهامها بأنها أوصلت شاحن تلفون و500 دولار من زميلها في العمل بأنقرة لأحد أصدقائها الفلسطينيين، والأمر نفسه يمكن قوله عن محاكمة ممثل جمعية "تيكا" بغزة محمد مرتج،ى رغم أنه قام بواجبه ومهامه في مساعدة المحتاجين، بغض النظر عن اتجاهاتهم وانتماءاتهم السياسية، ورغم أنه سافر طوال سنوات عبر الحواجز الإسرائيلية بهويته الوظيفية المعروفة دون أدنى مضايقة أو مساءلة.
مع ذلك، فإن تل أبيب ستكون مقيدة أو محرجة بعض الشيء (لذلك لجأت إلى تسريب هآرتس) في استهدافها للحضور التركي في المدينة المقدسة؛ كونه يتم بشكل سلمي قانوني ووفق المواثيق والمعاهدات الدولية ذات الصلة، وحتى وفق القانون الإسرائيلي نفسه، بمعنى أن جمعية "تيكا" تقوم بمهامها الإنسانية والإغاثية علناً، وحسب القانون وبعلم السلطات الإسرئيلية وتحت نظرها، وهي تقدم خدماتها للمواطنين الفلسطينيين وتساعدهم على ترميم بيوتهم ومؤسساتهم، كما تدعمهم تعليمياً وصحياً لمواجهة ممارسات الاحتلال غير الشرعية القانونية، أيضاً والتي لا يعترف بها العالم ومؤسساته الشرعية.
زيارة المواطنين الأتراك للقدس تأتي بنفس السياق بشكل سلمي قانوني، وضمن العلاقات
الدبلوماسية بين الدولتين التي تزعم تل أبيب أنها تحافظ عليها وتتمسك بها، والأهم أن الضيق التبرم الإسرائيليي منها يفضح تناقض نفاق وازدواجية الرواية الإسرائيلية الزاعمة بضمان حرية العبادة، ودعوة المسلمين لزيارة أماكنهم المقدسة في المدينة المحتلة.
أعتقد أن حملة الاستهداف الإسرائيلي للحضور التركي بالقدس لها جانب أو بعد ابتزازي يتعلق بفتح النقاش السياسي مع الحكومة التركية حول الملفات السابقة لمحاولة التأثير عليها، كما حول العلاقة السياسية والدبلوماسية المتردية بين البلدين ومحاولة إعادتها إلى مستواها الطبيعي، وربما فتح النقاش مرة أخرى حول نشاط حركة حماس على الأراضي التركية، أو علاقة بعض المواطنين الأتراك بالحركة.
حملة الاستهداف الإسرائيلي للحضور التركي بالقدس لها جانب أو بعد ابتزازي يتعلق بفتح النقاش السياسي مع الحكومة التركية حول الملفات السابقة لمحاولة التأثير عليها
في كل الأحوال، تعبر القصة برمتها عن الضيق الإسرائيلي من النشاط التركي في القدس والسياسات التركية تجاه القضية الفلسطينية والمنطقة بشكل عام، وتل أبيب تعرف قطعاً أنها عاجزة عن تغيير تلك السياسات، أو التأثير عليها، كما عن تحجيم الحضور التركي فلسطينياً، وعلى كل المستويات، وهو الحضور الذي يحرج إسرائيل يفضحها، وفي نفس الوقت يتركها عاجزة في مواجهته دون المجازفة بخلق أزمة قد تؤدي إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، العلاقة التي ترى تل أبيب أنها بحاجة إليها ولو في مستوياتها المنخفضة الحالية.