رغم الأزمة العميقة التي تمر بها البلاد، فقد صوت البرلمان
التونسي على قانون جديد يتعلق بمكافحة الإثراء غير المشروع. وبذلك تصبح تونس أول بلد عربي يلزم نخبه بضرورة التصريح على ممتلكاته قبل تولي أي مسؤولية تابعة للدولة أو جماعة محلية أو مؤسسة أو هيئة أو منشأة عمومية، أيضا بعد مغادرتها.
رغم أن الثورة اندلعت بسبب
الفساد الذي استشرى في عهد الرئيس السابق، إلا أن السنوات السبعة التي مرت بعد ذلك كشفت عن تفاقم هذه الظاهرة بشكل رهيب وغير مسبوق، مما جعل مؤسسات الدولة والقطاع العام عرضة للابتزاز والتحيل.
أمام هذه الظاهرة العالمية الخطيرة، تجندت أطراف عديدة من أجل التصدي للإثراء غير المشروع، بعد أن لاحظ التونسيون صعود فئات اجتماعية جديدة تشبه ظاهرة تجار الحروب الذين يتوالدون في أجواء الأزمات والتناحر وتفكك الدول. ولأن الأحزاب أصبحت متهمة أيضا بعدم الجدية في تنظيف صفوفها من العناصر الانتهازية والمجموعات المشبوهة، فقد وجدت نفسها مدعوة إلى عدم التردد في التصويت لصالح القانون الجديد الذي وافق عليه البرلمان بالإجماع، وذلك حتى لا يقال بأن هذا الحزب أو ذاك مورط في التستر عن الفاسدين. وتعتبر هذه الخطوة النوعية هامة، حيث سيكون لها شأن في المرحلة القادمة إذا ما توفرت الإرادة السياسية والآليات الإدارية والمالية الضرورية لتنفيذ هذه الخطة على أرض الواقع.
تشمل قائمة المطالبين بالكشف عن مكاسبهم 37 منصبا، بدءا من رئيس الجمهورية والوزراء ونواب مجس الشعب ورؤساء الهيئات الدستورية والقضائية والأحزاب والجمعيات وشركات القطاع العام، وصولا إلى أعوان الأمن الداخلي والهياكل الرياضية وأعوان الجمارك والبلديات والنقابات والصحفيين.
وإذ سيكون هذا الكشف عن الممتلكات خاضعا للسرية التامة حتى لا يوظف ضد الأشخاص، إلا أنه سيكون دوريا وخلال كل ثلاث سنوات ما دام الشخص المعني بالمراقبة يتحمل ذات المسؤولية. كما أن هذا التصريح سيشمل أيضا الزوجة والأبناء الذين لا يزالون تحت تصرف آبائهم. إنه نظام أشبه بجهاز الأشعة البنفسجية الكاشفة عن كل ما يطرأ على جسم الشخص ودخله وحياته الظاهرة والخفية من تغير غير مبرر، وهو ما قد يحد من احتمالات الثراء غير المشروع الذي يفتك بالذمة؛ ويُخضع المسؤول السياسي أو الإداري او الأمني أو الإعلامي لابتزاز اللوبيات التي انتعشت في تونس خلال السنوات القليلة الماضية.
يعود الفضل في تحويل ما نفذه عمر بن خطاب في عهده عندما رفع شعار "من أين لك هذا" إلى المجتمع المدني النشيط في تونس، أيضا إلى يوسف الشاهد، رئيس الحكومة الحالي. فهذا الأخير بادر بما أسماه الحرب على الفساد لحماية الدولة، ورغم انه لم يتمكن من التوسع كثيرا في هذه الاختيار لأسباب عديدة، إلا أن جزءا من الصعوبات التي يواجهها خلال الفترة الأخيرة كانت بسبب محاولته المحدودة ضرب بعض الرؤوس المتهمة بالفساد. لكن المشكلة اليوم لا تكمن في من وفر الفرصة للتصويت على هذا المشروع، ولكن في مدى توفر القدرة على تنفيذه وتحويله الى منظومة متكاملة وفعالة.
هذه القدرة تمنحها الدولة القوية غير المنحازة وغير المخترقة من قبل جهات مشكوك في ولائها للوطن وتطبيق القانون. وهنا يكمن مربط الفرس، فالذين يجرون وراء الفرص للثراء على حساب المجموعة الوطنية استفادوا كثيرا من اضطراب الأوضاع وتعاقب الحكومات في فترات قصيرة، وهم الآن يعمدون إلى إطالة الأزمة السياسية والاقتصادية الراهنة ويشعلون الصراع حول الكراسي من أجل اقتطاع مزيد من المكاسب المحرمة ونهش جسم الدولة الضعيفة.
من الأهمية بمكان صدور قانون يمنع الإثراء غير المشروع وتضارب المصالح، فذلك يدل على أن الرغبة الثورية في الإصلاح لا تزال موجودة رغم تراجعها، لكن الحرب ضد الفساد تحتاج الى هبّة مجتمعية قوية تسند أجهزة الدولة وتدعمها في هذه المعركة الاستراتيجية؛ التي تهدف الى حماية الأجيال القادمة والحفاظ على
الثروة الوطنية المعرضة للنهب والاقتطاع. إنها جزء من معركة أوسع تشمل الثقافة والأخلاق، وتعيد بناء العقول، عسى أن يدرك المواطنون أن النجاح في التنمية جهد جماعي وليس تواكلا على الدولة أو جهدا فرديا لاستغلال الفرص غير البريئة في الوقت الضائع.