سقط نظام بشار
الأسد، وتكرر معه السيناريو نفسه الذي خضع له معظم المستبدين.
تظاهر في البداية بأنه الأقوى والأشرس لبثّ الرعب في قلوب السكان، وكسر إرادة
المعارضين، وعندما اشتد الضغط عليه بدأت قواته تتراجع إلى الخلف، وارتبكت صفوف
أنصاره. في هذا المنعرج، وفي مراوغة منه، وجه رسائل سياسية لإشعار الجميع بكونه
مستعدا للتنازل عن بعض الأشياء؛ مثل القبول بصياغة دستور جديد، أو فتح الإعلام
الرسمي المحتكر من قبل النظام لبعض أصوات المعارضة. أضاع فرصا عديدة حتى وجد نفسه
في لحظة الفرار ومغادرة البلد نهائيا، فترك الجمل بما حمل. لقد ارتكب زميله
التونسي زين العابدين بن علي قبل سنوات نفس الأخطاء، مع اختلاف التحديات
والرهانات.
طُويت صفحة الأسد وعائلته ونظامه بعد تمسكهم بالسلطة أكثر من نصف قرن. كانت
الحصيلة ثقيلة على المستويين السياسي والاقتصادي والإنساني الذي يعدّ الأهم لقياس
طبيعة العلاقة بين الحاكم وشعبه، وعندما دخلت كاميرا قناة الجزيرة أقبية سجن صيدنايا الشهير، ونقلت لجمهورها مشاهد من أوضاع السجينات، تذكرت
ما ذكره المعارض السياسي ميشيل كيلو في أثناء اعتقاله. طلب منه السجان أن يصطحبه إلى
زنزانة لكي يحكي قصة لطفل معتقل مع أمه، التي ولدته داخل المعتقل على إثر هروب
زوجها إلى الأردن بسبب انتمائه إلى جماعة "الإخوان المسلمين".
عموم الشعب السوري، رغم كونه شعبا مسالما، قد اقتنع في النهاية بأن نظاما حديديا مثل نظام الأسد، لا ينفع معه سوى القبضة الحديدية. فالفرح الذي عمّ سوريا والغضب الذي عبّر عنه الشارع، دليل واضح على رفض الأغلبية للنظام ورموزه. لم يجد الأسد من يدافع عنه من السكان، حتى أنصاره اختفوا في اللحظات الحاسمة.
بدأ كيلو
يحكي للطفل الذي لم يتجاوز سنه خمس سنوات قصة العصفور والشجرة. فالتفت إليه باستغراب
وقال: "شو يعني عصفور؟". عندها قام الرجل وغادر الزنزانة مطرقا، وهو يردد: "لا أعرف حكاية يمكن سردها لطفل لم ير وجه الشمس".
عندما ضاق السوريون من هذه الحالة المأساوية، أرادوا أن يُشعروا بشار بأن
الوقت قد حان لتغيير السياسات والأولويات، وأن يرحل بهدوء. فعلوا ذلك في البداية
بكل هدوء وعفوية، ورغم أنهم رفعوا شعار "سلمية سلمية" متأثرين بالثورة
التونسية، غير أنهم ووجهوا بكل وحشية وشراسة. وهو ما فتح الباب أمام تسليح
الثورة،
وجعل الفصائل المسلحة والأكثر راديكالية تتصدر المشهد وتقود الصراع الدامي.
اللافت للنظر، أن عموم الشعب السوري، رغم كونه شعبا مسالما، قد اقتنع في
النهاية بأن نظاما حديديا مثل نظام الأسد، لا ينفع معه سوى القبضة الحديدية. فالفرح
الذي عمّ
سوريا والغضب الذي عبّر عنه الشارع، دليل واضح على رفض الأغلبية للنظام
ورموزه. لم يجد الأسد من يدافع عنه من السكان، حتى أنصاره اختفوا في اللحظات
الحاسمة، وهو ما أقنع بشار بعدم جدوى الاستمرار في معركة محكوم عليها بالهزيمة،
فغادر البلاد موصيا أجهزته بالاستسلام والإسراع بنقل السلطة.
الآن وقد قُضي الأمر، وتغير المشهد العام جذريا، أصبح الواجب يقتضي التحرك
وبسرعة. سوريا في أشد الحاجة إلى التعجيل بانتقال السلطة؛ لأن التردد والتلاعب
بهذا الأمر من شأنه أن يفتح المجال للطامعين والغاضبين والمشككين. ويعدّ توجيه
العناية نحو فض مشكلات الخدمات الأساسية؛ نظرا لارتباطها بمعيشة المواطنين، أمرا
حيويا، ثم تعدّ صياغة دستور توافقي من أهم الأولويات المطروحة على القوى السياسية
والاجتماعية والقانونية؛ باعتبار الدستور هو الوثيقة المرجعية التي ستحدد طبيعة
المؤسسات ونمط الحكم، وتضبط ملامح النمط المجتمعي الذي سيعيش في كنفه السوريون.
وأخيرا تنظيم انتخابات شفافة وحرة ونزيهة من شأنها أن تفرز رئيسا يتمتع بالشرعية،
وكذلك برلمانا حقيقيا ومسؤولا.
القضاء على نظام الأسد هدف مشروع للمعارضة، لكنه يبقى خطوة في مسار طويل ومتعرج. في المقابل، هناك أطماع واسعة لدول لا تريد لسوريا أن تكون قوية وفاعلة، وستحرص هذه الدول على التدخل بأشكال متعددة في الشأن السوري من أجل تحقيق مصالحها.
كما أن تنظيم الجيش والشرطة، يعدّ من المسائل الحساسة والدقيقة، فالجيش
السوري كانت تطغى عليه العوامل الطائفية في مجتمع متعدد الطوائف، وهو ما يفرض
اعتماد أسلوب جديد في الانتداب والتعيينات.
كما أن السياسة الخارجية تعد من المسائل الحساسات التي تقتضي الابتعاد عن
سياسة المحاور، والتمسك بالسيادة الوطنية. وفي هذا السياق، ستكون القيادة السياسية
الجديدة مطالبة بتحديد موقف واضح من دول الجوار، خاصة تجاه إسرائيل التي استغلت الأوضاع
الجديدة، لتقصف مائة موقع شديد الحساسية عسكريا وأمنيا يتعلق بالأمن القومي السوري،
وذلك بحجة ضمان عدم الوصول إليها من قبل داعش. كما اقتنصت حكومة نتنياهو الفرصة
لكي تقوم باحتلال الشريط العازل بين سوريا والجولان المحتل، الذي مساحته تقترب من
مساحة غزة. والهدف من ذلك إضعاف البلد، وحرمان السلطة الجديدة من فرصة استثمار للذخيرة
العسكرية والبنية التحتية التي أنجزها نظام الأسد.
إن الذين انتصروا عسكريا، يتحملون مسؤولية كبرى وهم يتهيئون لاستلام
السلطة. القضاء على نظام الأسد هدف مشروع للمعارضة، لكنه يبقى خطوة في مسار طويل
ومتعرج. في المقابل، هناك أطماع واسعة لدول لا تريد لسوريا أن تكون قوية وفاعلة،
وستحرص هذه الدول على التدخل بأشكال متعددة في الشأن السوري من أجل تحقيق مصالحها.
خطاب القيادة الجديدة مطمئن إلى حدّ ما، لكن المخاطر كبيرة والأسئلة المفتوحة
عديدة.