كتاب عربي 21

كيف غيّرت غزة سوريا؟

"انهيار سريع لقوات نظام الأسد"- إكس
خلقت عملية "طوفان الأقصى" المذهلة والناجحة التي شنتها فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة بقيادة حماس على معسكرات ومستوطنات الكيان الإسرائيلي في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023؛ تحولات جيوسياسية عميقة في المنطقة ألهمت فصائل المعارضة السورية بقيادة هيئة تحرير الشام في إدلب بشن معركة "ردع العدوان" في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024 على مدينة حلب؛ التي سقطت بسهولة فائقة بيد قوات المعارضة بعد انهيار سريع لقوات نظام الأسد، وسرعان ما تقدمت قوات المعارضة إلى مدن أخرى حتى سقوط دمشق ونهاية نظام الأسد.

فالتحولات الجيوسياسية الكبرى التي فرضتها الحرب الإسرائيلية في غزة وانتقالها إلى لبنان؛ أدت إلى تبدل موازين القوة في سوريا التي اعتمدت في بقائها وتثبيت وجودها على إيرن ومليشياتها البرية وعلى روسيا وقواتها الجوية. فاستمرار الحرب بين أوكرانيا وروسيا، أقوى حليف للأسد، أضعف من قدرة روسيا على تأمين غطاء جوي وتوفير الموارد والمخصصات والذخائر، والمواجهات بين إيران وحليفتها جماعة حزب الله من جهة وإسرائيل من جهة أخرى؛ أفضى إلى إضعاف إيران ومحور مقاومتها في سوريا بصورة واضحة، بعد أن تلقى حزب الله المدعوم من إيران ضربات موجعة خلال شهرين من الحرب مع إسرائيل، وانهيار وجوده إلى جانب المليشيات الشيعية في سوريا، وهو ما استثمرته المعارضة السورية المسلحة بقيادة "هيئة تحرير الشام" ميدانيا بشكل واضح وبدعم تركي محدود.

إن التغيرات الجيوسياسية التي تسببت بها غزة تفسر الانهيار السريع لقوات النظام السوري خلال أيام أمام فصائل المعارضة بقيادة "هيئة تحرير الشام"، فصمود نظام الأسد طوال سنوات منذ عام 2011 لم يكن نتيجة قوة النظام، بل نتاج وضع جيوسياسي دولي وإقليمي منع سقوط نظام الأسد رغم أن قوة المعارضة السورية كانت أقوى. فقد نجح نظام بشار الأسد إلى حد كبير في فرض قراءته الخاصة للوضع بعد أن تماهى مع سردية "حرب الإرهاب" الإسلامي، التي لم تعد استراتيجية أمريكية للهيمنة فحسب، بل أصبحت استراتيجية عربية للتخلص من تداعيات ثورات "الربيع العربي" التي جاءت بالإسلاميين إلى الحكم في بلدان عربية عديدة، فقد أصبحت إزاحة الإسلاميين عن الحكم مهمة غربية وعربية مقدسة في سوريا وكافة بلدان العالم العربي.
نجح نظام بشار الأسد إلى حد كبير في فرض قراءته الخاصة للوضع بعد أن تماهى مع سردية "حرب الإرهاب" الإسلامي، التي لم تعد استراتيجية أمريكية للهيمنة فحسب، بل أصبحت استراتيجية عربية للتخلص من تداعيات ثورات "الربيع العربي" التي جاءت بالإسلاميين إلى الحكم في بلدان عربية عديدة، فقد أصبحت إزاحة الإسلاميين عن الحكم مهمة غربية وعربية مقدسة في سوريا وكافة بلدان العالم العربي

وقد كان فشل الثورة السورية والانتفاضات العربية وهزيمتها حتميا في "حرب السرديات" في ظرف جيوسياسي عالمي وإقليمي تقوده سردية "الإرهاب الإسلامي"، فباسم حرب الإرهاب أجهضت الأنظمة الاستبدادية العربية بمساندة أمريكية غربية ثورات "الربيع العربي"، وأصبحت حركات الإسلام السياسي موسومة بالإرهاب، ولم تعد الفروقات بين الحركات الإسلامية السياسية والجهادية مهمة، حيث يتساوى راشد الغنوشي مع أبي بكر البغدادي، ومحمد مرسي مع أبي محمد الجولاني، فقائمة الإرهاب العربية تجاوزت اللوائح الأمريكية والغربية في أسسها الهوياتية، فالهوية الإسلامية للمعارضة السياسية كافية للتسمية الإرهابوية.

لم يكن نجاح نظام بشار الأسد بفرض سردية الإرهاب وفرض خيار بين نظامه الوحشي الطائفي وبين نظام إسلامي جهادي سني مسألة عبقرية، فقد كانت تلك هي الرواية الغربية والعربية الرسمية، فعندما تدخلت الولايات المتحدة والدول الأوروبية ومعها الدول العربية في سوريا، فضلت بقاء الأسد على أي بديل إسلامي ولم تجد في أي فصيل سوري مواصفات الاعتدال، ولم يكن ظهور حركات جهادية عالمية ممثلة بجبهة النصرة (الفرع السوري لتنظيم القاعدة) والدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، ليغير من جوهر التصورات الأمريكية أو العربية.

فقد ذهبت الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين إلى التحالف مع المكونات الكردية وتأسيس ما سُمي "قوات سوريا الديمقراطية" رغم سيطرة حزب العمال الكردستاني المصنف على لائحة المنظمات الإرهابية على وحدات حماية الشعب، ودعمت الدول العربية الفصائل التي تقاتل الجماعات الإسلامية التي تصنفها إرهابية، وهو ما استغلته إيران من خلال تأسيس شبكة واسعة من المليشيات الشيعية في العراق وسوريا تحت ذات السردية الخاصة بالإرهاب. وقد حولت الولايات المتحدة والدول العربية المسألة السورية من انتفاضة شعبية لإسقاط نظام الأسد إلى حرب أهلية فصراع إقليمي وحرب وكالة، فاستخدام سردية حرب الإرهاب أدى إلى تفاهمات أمريكية روسية سمح بالتدخل العسكري الروسي في عام 2015.

لا جدال في أن الأنظمة السلطوية العربية ساهمت في تدمير الثورة السورية وصعود النفوذ الإيراني، فبعد أن اطمأنت السلطوية العربية على مستقبلها في الحكم عقب عرقلة ثورات الربيع العربي وتخريب مسارات التحول الديمقراطي من خلال البوابة السورية، التي شكلت محطة رئيسية في حروب العبرة لشعوب المنطقة، باشرت سلطويات الثورة العربية المضادة عملية إعادة تأهيل الأسد واستعادة عضويته الطبيعية في نادي السلطويين العرب ومقره "الجامعة العربية"، فبطرائق عديدة كانت السلطوية العربية الضارية شريكة لنظام الأسد الوحشي الذي قتل نحو نصف مليون سوري، وهجر نحو سبعة ملايين آخرين. إذ يشير مسار محاولات السلطوية العربية إعادة تأهيل الأسد إلى اللحظة التي أنجزت فيها الثورة المضادة انقضاضها على ثورات الربيع العربي، وقد شكلت سنة 2017 لحظة فاصلة، حيث انتهت قصة "أصدقاء سوريا"، وتبدلت الأولويات الدولية والعربية، وعاد الأسد بجهود إماراتية سعودية إلى مكانه في اجتماعات الجامعة العربية، حيث حضر آخر اجتماعين.

إن الظروف الجيوسياسية التي خلقتها معركة غزة أطاحت بحرب السرديات التي ترتكز على ثيمة "الإرهاب" والتي مكنت الأسد من البقاء في الحكم، ومكنت إيران ومليشياتها من السيطرة على سوريا، فقد تكشف مفهوم الإرهاب عن كونه بناء سياسيا وأداة للهيمنة، ولم تنجح إيران في تسويق رواية حرب الإرهاب بعد أن أصبحت بضاعة بالية ومنتهية الصلاحية. فالرواية الإيرانية بأن هذه الجماعات الإرهابية التكفيرية في سوريا تنفذ هذه الهجمات بمؤامرة أمريكية صهيونية، تبدو في ظاهرها صحيحة، فهيئة تحرير الشام مصنفة منظمة إرهابية عالميا، لكن تلك الرواية لم تعد صالحة، فقد تغيرت الأولويات الأمريكية منذ صعود الصين ونذر بروز تعددية قطبية، بحيث أصبحت الأولوية للمنافسة الجيوسياسية وهو ما ظهر منذ استراتيجية الدفاع الوطني الأمريكية 2018. ويبدو أن الدول العربية لا تزال كإيران تصر على سردية الإرهاب في سوريا، فهي سردية أساسية للهيمنة بالنسبة لإيران أو البقاء في الحكم للأنظمة الاستبدادية العربية.

لا شك أن الولايات المتحدة تهدف إلى إضعاف روسيا والتخلص من النفوذ الإيراني في سوريا والشرق الأوسط، وهي رؤية تتماهى مع الموقف الإسرائيلي، وهو ما ظهر جليا خلال اجتماع لمجلس الأمن انعقد بسبب تصعيد القتال في سوريا. فقد دعا نائب السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة روبرت وود، في الرابع من كانون الأول/ ديسمبر 2024، إلى خفض التصعيد في القتال في سوريا وحماية المدنيين. كما عبر عن قلقه من أن الهجوم تقوده "هيئة تحرير الشام". واتهم وود قوات الرئيس السوري بشار الأسد وروسيا بالتسبب في سقوط ضحايا مدنيين في الهجمات على المدارس والمستشفيات، قائلا إن "حقيقة إدراج الولايات المتحدة والأمم المتحدة هيئة تحرير الشام منظمة إرهابية لا تبرر المزيد من الفظائع التي يرتكبها نظام الأسد وداعموه الروس".

وفي تصريحات موجهة إلى وود، قال السفير الروسي لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا: "ليس لديك الشجاعة للتنديد بهجوم إرهابي واضح على المدنيين المسالمين في المدن السورية المسالمة"، ورد وود متهما نيبينزيا بأنه "ليس في وضع يسمح له بإلقاء محاضرات علينا بشأن هذه القضية" لأن موسكو "تدعم الأنظمة التي ترعى الإرهاب في جميع أنحاء العالم".

في حقيقة الأمر خلقت غزة معضلة استراتيجية للولايات المتحدة والغرب وإسرائيل والأنظمة الاستبدادية العربية، فكل هؤلاء تجمعهم مصلحة إضعاف روسيا والتخلص من النفوذ الإيراني في سوريا، ولذلك فقد أعطت الضوء الأخضر لتحرك قوات المعارضة بقيادة هيئة تحرير الشام وبغطاء تركي، لكن لم يدر بخلد أحد انهيار قوات الأسد بصورة دراماتيكية، فالتقدم المفاجئ الذي أحرزته قوات المعارضة شكل معضلة بالنسبة لإسرائيل وأمريكا والغرب والعرب، فالانتصار من جانب أي من الجانبين ينطوي على مخاطر. فبشار الأسد متحالف مع عدو إسرائيل، إيران، تجدد الحرب قد يهدد بتنشيط هذه العلاقة، مما يقوض جهود إسرائيل لإضعاف شبكة إيران من الدول الحليفة والمليشيات في جميع أنحاء المنطقة. أما الجماعة التي تحدت حكم الأسد، هيئة تحرير الشام، فهي منظمة صنفتها الولايات المتحدة إرهابية، وترى إسرائيل أنها تشكل خطرا على مصالحها. فبحسب هاريل تشوريف، الباحث البارز في جامعة تل أبيب: "الخيار الأفضل لإسرائيل الآن هو إضعاف هذه القوى بشكل متبادل، وليس انتصارا حاسما لأي منها".

خلقت غزة معضلة استراتيجية للولايات المتحدة والغرب وإسرائيل والأنظمة الاستبدادية العربية، فكل هؤلاء تجمعهم مصلحة إضعاف روسيا والتخلص من النفوذ الإيراني في سوريا، ولذلك فقد أعطت الضوء الأخضر لتحرك قوات المعارضة بقيادة هيئة تحرير الشام وبغطاء تركي، لكن لم يدر بخلد أحد انهيار قوات الأسد بصورة دراماتيكية
لقد فضحت غزة سرديات الإرهاب وكشفت سوريا عن مفارقات حرب الإرهاب، إذ تزعم الولايات المتحدة أنها تحارب "الإرهاب" لكن الحقيقة أن مصطلح "الإرهاب" مفروض وغير مفترض، وتستخدمه أمريكا كأداة للهيمنة والسيطرة، حيث تصف واشنطن أي منظمة أو دولة مناهضة لسياساتها ومصالحها بالإرهاب. وتعد الحالة الفلسطينية نموذجية في فهم أدائية البناء السياسي لمصطلح الإرهاب، حيث تصنف حركات المقاومة الفلسطينية للاستعمار الاستيطاني الصهيوني منظمات إرهابية.

وتكشف المواقف الأمريكية في سوريا آليات التلاعب الأمريكي وعملية اختراع الإرهاب، فقد قال المبعوث الأمريكي السابق إلى سوريا جيمس جيفري، إن دعم هيئة "تحرير الشام" للقرار الدولي 2254، وتجنب جرائم الحرب، وقبول وقف إطلاق النار سيكون حاسما في تقييم واشنطن للهيئة المصنفة على قوائم الإرهاب. وأوضح جيفري في حديث لصحيفة "الشرق الأوسط"، أن واشنطن التي تصنف هيئة "تحرير الشام" ضمن قوائم الإرهاب، لم تقم بوصف هجمات "تحرير الشام" بالإرهابية، ولفت إلى أن ما يجري في سوريا هو انعكاس على المستوى الإقليمي لانهيار إضافي للتحالف الإقليمي لوكلاء إيران.

كشفت غزة عن فشل أمريكي وإسرائيلي في حرب السرديات، فقد باتت مقولة الإرهاب الأمريكية مفضوحة، وباتت الشعوب في العالم العربي تدرك قواعد سردية الإرهاب كبناء سياسي يتبع المصالح القومية، ولا صلة له بالواقع. فلا أحد في العالم العربي ينظر إلى حماس سوى أنها حركة تحرر وطني إسلامية، واستقبل الشعب السوري هيئة تحرير الشام بزعامة أحمد حسين الشرع (أبو محمد الجولاني) كحركة تحرر دون الاكتراث بالتصنيفات الأمريكية والغربية والعربية. فهيئة تحرير الشام لم تتغير كثيرا لكن الوعي العربي تبدل بعد "طوفان الأقصى"، وهو يتغير بعد معركة "ردع العدوان"، فلم تعد الهوية الدينية الإسلامية تحدد ماهية الإرهابي، وبدا واضحا أن الإرهاب مرتبط بهوية الفاعل وليس الفعل وفق حسابات المصلحة والهيمنة. فهيئة تحرير الشام لم تتبدل بين ليلة وضحاها، وقد أعلنت عن قولبة أيديولوجيتها مرات عديد دون أن تتغير تصنيفاتها، وما تغير هو البناء السياسي المستند إلى المصلحة.

إن الحركات الجهادية هي حركات سياقية، فهيئة تحرير الشام هي التسمية الأخيرة لجبهة النصرة الأهل الشام المرتبطة بالقاعدة التي استقرت عليها الحركة الجهادية السلفية السورية منذ كانون الثاني/ يناير 2017، وقد دخلت الهيئة في سلسلة من التحولات في إطار نزعة براغماتية حذرة ومحسوبة، حيث قامت بقولبة أيديولوجيتها السلفية وأعادت تحديد أهدافها دون أن تتخلى عن نهجها الجهادي السلفي. فلا زالت الحركة ملتزمة بتعريف هويتها وتحديد انتمائها الديني الإسلامي ضمن تيار الحركة السلفية الجهادية وتراث السلفية وتنوعاتها التاريخية والحديثة والمعاصرة، ففي سياق تحولات الهيئة للتكيّف مع التطورات التي عصفت بالثورة السورية وتغيّر موازين القوى وتبدل المواقف الإقليمية والدولية، سعت الهيئة إلى ترسيخ نفسها حركة سلفية محلية للتخلص من تصنيفها منظمة إرهابية دولية، حيث عملت على تقديم نفسها حركة جهادية سورية محلية بالابتعاد عن نهج القاعدة العالمي باعتباره يتوافر على أجندة متشددة على الصعيدين الأيديولوجي والاستراتيجي، وشرعت الهيئة بتقديم نفسها مجموعة جهادية سلفية محلية معتدلة تقتصر أهدافها على محاربة النظام السوري، وحلفائه على الأرض من الروس وإيران، دون وجود أي أجندة جهادية عالمية.

وفي ظل تخلي معظم الدول الإقليمية عن دعم الثورة السورية باستثناء تركيا منذ بداية 2017، تحوّل خطاب هيئة تحرير الشام من تبني الجهاد العالمي إلى التركيز على الشأن المحلي، ولم تعد تستخدم مصطلحات معجم الجهادية العالمية، حيث اختفت مصطلحات المعجم الجهادي القاعدي؛ مثل "جهاد الأمة" أو "جهاد الأمة الإسلامية"، وتراجع استخدام المعجم الجهادي الطائفي مثل "الجهاد ضد النصيرية" (وهو مصطلح ازدرائي يستخدمه السلفيون الجهاديون بشكل أساسي لوصف العلويين)، وحلّ مكانها مصطلحات مختلفة؛ مثل "الجهاد" للدفاع عن الثورة السورية، و"النضال من أجل حرية الشعب السوري"، لكنها بقيت ملتزمة بما تطلق عليه "ثوابت" الحركة التي تقوم على "التوحيد" و"الولاء والبراء" وحاكمية الشريعة " و"الكفر بالطاغوت" و"رفض العملية السياسية الديمقراطية"، ووجوب "إقامة حكم إسلامي يقوم على الشورى، ومفهوم أهل الحل والعقد".

وفي سياق البرهنة على اعتدالها عملت الهيئة بجد للتخلص من تصنيفها حركة إرهابية، في إطار ما أطلقت عليه "الجهاد والسياسة الشرعية بين الثوابت والمتغيرات"، حيث شرعت بفتح قنوات للتواصل مع الدول الإقليمية والعالمية، إذ لم تكتف بقطع علاقاتها مع ممثلي الجهادية العالمية بداية مع تنظيم الدولة عام 2013، ثم تنظيم قاعدة الجهاد عام 2016، واعتبارهما انحرافات عن نهج السلفية الجهادية القويم، بل دخلت معهما في مناظرات عقدية وفقهية للبرهنة على انحرافهما وخروجهما عن نهج سلف الأمة النقي إلى نهج الخوارج المارقين من الدين والفرق الضالة المبتدعة، ودخلت مع فروع الجهادية العالمية في سوريا في صراع دموي مسلح للبرهنة على صحة اعتدالها ووسطيتها وانتمائها إلى السلفية الجهادية الحقة، وهي تعمل بدون كلل من أجل رفعها من قوائم الإرهاب العالمية، باعتبارها خطوة لا غنى عنها لإعادة تأهيلها واستدخالها في أي عملية حول مستقبل سوريا.

تكشف مسارات تحوّل هيئة تحرير الشام عن الإطار الواسع لمصطلح السلفية عموما والسلفية الجهادية خصوصا، وعن تحققات معنى السلفية التاريخية وتجسداته الواقعية، وتُظهر كيفية تشكُل مسارات الهيئة آليات عمل السلفية في سياقات زمانية ومكانية مختلفة، حيث تعمل على تطوير تأويلات وممارسات مجسدة جديدة ضمن التقاليد الخطابية التأسيسية من القران الكريم والحديث النبوي.
خلقت الحرب الإسرائيلية على غزة بعد عملية "طوفان الأقصى" تبدلات جيوسياسية عميقة، أفضت إلى إضعاف إيران وشبكة مليشياتها وفي مقدمتها حزب الله اللبناني في سوريا، ولم تعد سردية حرب الإرهاب التي حافظت على بقاء نظام الأسد وساهمت في تمدد نفوذ إيران مهيمنة مع بروز نظام من التعددية القطبية وعودة سردية المنافسة الجيوسياسية، ولم تكن معركة "ردع العدوان" التي شنتها المعارضة السورية المسلحة بقيادة هيئة تحرير الشام ممكنة، دون عملية "طوفان الأقصى"

فقبل الكشف عن هويته الحقيقية والإعلان عن قطع العلاقات مع القاعدة في تموز/ يوليو 2016، كان أمير جبهة النصرة، "الفاتح" أبو محمد الجولاني، حريصا دائما على التحدث بثقة عند سؤاله عن حياته، واعتزازه بالعلاقة مع القاعدة، فقد ارتدى الزي الأفغاني الدال على الجهادية العالمية، وارتدى زيا شاميا تقليديا متواضعا، مما يُظهر إحساسا بالانتماء المحلي والزهد، لكن الأمور تغيرت منذ ذلك الحين، عندما أصبح الانتماء إلى القاعدة عبئا، إذ غيّر "الفاتح" لقبه إلى مجرد "زعيم"، وبدأ يرتدي بدلة رسمية على الطراز الغربي، لكن تبدّل ولاءات الجولاني وقولبة أيديولوجيته وتغيير ممارساته وسلوكياته لم تخرج عن معنى السلفية في حقيقة الأمر.

خلاصة القول أن غزة غيّرت سوريا، فقد خلقت الحرب الإسرائيلية على غزة بعد عملية "طوفان الأقصى" تبدلات جيوسياسية عميقة، أفضت إلى إضعاف إيران وشبكة مليشياتها وفي مقدمتها حزب الله اللبناني في سوريا، ولم تعد سردية حرب الإرهاب التي حافظت على بقاء نظام الأسد وساهمت في تمدد نفوذ إيران مهيمنة مع بروز نظام من التعددية القطبية وعودة سردية المنافسة الجيوسياسية، ولم تكن معركة "ردع العدوان" التي شنتها المعارضة السورية المسلحة بقيادة هيئة تحرير الشام ممكنة، دون عملية "طوفان الأقصى"، التي خلقت معضلة استراتيجية للولايات المتحدة والمستعمرة الصهيونية، التي فضلت الأسد على المعارضة السورية، خشية من عدم الاستقرار وانعدام الأمن الذي خلقته جماعات المعارضة الإسلامية.

فقد كانت إسرائيل تأمل بجهود أمريكية عربية بإمكانية إبعاد الأسد عن إيران من خلال الإغراء بالتمويل ونسج العلاقات الوثيقة مع دول الخليج الأكثر صداقة للغرب، حيث أعادت جامعة الدول العربية قبول سوريا بعد طردها من المجموعة بسبب تحالفها مع إيران وحزب الله، لكن المعضلة أن الرغبة الأمريكية لإسرائيلية بإضعاف الأسد وخلق ثلاث كيانات ضعيفة متحاربة لم تكن دقيقة، فقد انهارت قوات الأسد تماما وخرجت إيران وملشياتها، وسيطرت قوات المعارضة المسلحة بقيادة هيئة تحرير الشام على سوريا، وتخشى الأنظمة العربية الاستبدادية من ذات مصير الأسد وعودة ربيع عربي جديد، لقد خلق "طوفان الأقصى" ديناميات جيوسياسية جديدة ومعضلات استراتيجية عميقة.

x.com/hasanabuhanya