تواجه اليوم أربع دول كبرى وأساسية في العالمين العربي والإسلامي، وهي
إيران وتركيا ومصر والسعودية، أزمات متعددة داخلية وخارجية، في ظل استمرار الحروب والصراعات في المنطقة، وازدياد الضغوط الأمريكية والتخوف الكبير من اندلاع مواجهات جديدة قد تدخل المنطقة في حرب شاملة شبيهة بالحرب العراقية-الإيرانية في الثمانينيات.
وليست هذه الدول الأربع فقط هي التي تعاني من أزمات اقتصادية وسياسية وتحديات أمنية واجتماعية، بل إن معظم دول الإقليم أصبحت جزءا من هذه الصراعات، وتحولت إلى ساحات للمواجهة المباشرة وغير المباشرة. وهذا ما نلاحظه في ظل ما يجري في اليمن لبنان وسوريا والعراق والبحرين وليبيا وقطر، مع احتمال تمدد الصراعات إلى دول أخرى، كتونس والجزائر والأردن والمغرب والكويت.
فهل آن الأوان للبحث مجددا بمشروع وستفاليا عربية-إسلامية لوقف كل هذه الصراعات والخروج من المأزق الحالي؟ أم أنه لم يعد بأيدينا القدرة على اتخاذ القرار بوقف هذه الصراعات، وسنظل وقودا لحروب وأزمات جديدة تؤدي للمزيد من الخراب والدمار في بلادنا؟
ولا بد من التذكير بأن من أوائل الذين طرحوا الدعوة لعقد معاهدة وستفاليا عربية-إسلامية؛ كان القيادي في حزب الله النائب الدكتور علي فياض، ومما قاله في العام 2013: "نحن نعيش في مرحلة لم يعد يسعنا أن نطل على الواقع السياسي الإقليمي أو المحلي دون الإطلالة على الواقع الإسلامي والوضع الدولي. وإذا أردنا أن نعالج المسألة العربية المعاصرة، فهناك جانبان:
الأول، يتصل بالتحديات الفكرية والاجتماعية والسياسات العامة، والثاني يتصل بالتصورات الاستراتيجية السياسية. وهذا الجانب مهم، وقد دعوت إلى ما يشبه "وستفاليا عربية إسلامية" (وستفاليا هي الاتفاقية التي عالجت الواقع الأوروبي بعد الحروب الدينية)، وذكرت سابقا أنه يمكن إنشاء نظام عربي-إسلامي جديد في ظل تراجع الدور الأمريكي وتعاظم الدور الشعبي. ويهدف هذا التصور لإقامة نظام إقليمي عربي-إسلامي جديد يرعى مصالح جميع الدول والفئات، ولمنع حصول حرب دينية-مذهبية تمتد لثلاثين عاما.
وقد كان لدى الدكتور فياض مشروع متكامل حول هذا الطرح، وجرت مناقشته في الأوساط الداخلية للحزب ومع بعض النخب الثقافية العربية والإسلامية، ولكن الظروف السياسية آنذاك واشتداد الصراعات في المنطقة لم تسمح بتبني المشروع أو متابعته.
وجرت الدعوة لمثل هذه المعاهدة العربية-الإسلامية من قبل شخصيات فكرية عديدة في العالم العربي والإسلامي، وجرى تبنيه من قبل منتدى التكامل الإقليمي في بيروت، وأصبحت جزءا من أوراق عمله الدائمة. وكان الكاتب والباحث اللبناني سعد محيو قد أصدر كتابا شاملا في هذا الإطار تحت عنوان: "العرب والإيرانيون والأتراك والأكراد: تكامل أم انتحار؟". وفي موازة ذلك، أقيمت عدة لقاءات وحوارات فكرية وسياسية في تونس والأردن ولبنان؛ تدعو إلى تبني هذا المشروع، لكن للأسف حتى الآن لم تتم الاستجابة لهذه الدعوة، والمنطقة لا تزال تعيش أجواء الصراعات والحروب، والتي قد تشتد وتتمدد في المرحلة المقبلة.
واليوم، إذ تواجه الدول الأساسية في المنطقة، وخصوصا إيران وتركيا والسعودية ومصر، المزيد من التحديات الاقتصادية والسياسية والأمنية والعسكرية والاجتماعية، وعدم قدرة أية دولة لمواجهة هذه التحديات بشكل منفرد، وفي ظل انقسام المنطقة بين محورين، الأول ترعاه روسيا وتسعى لجذب عدد من الدول إليه، والثاني ترعاه أمريكا، والتي تحاول فرض مشاريعها على المنطقة، وفي ظل سعي روسيا وأمريكا لتقاسم النفوذ في المنطقة على حساب الدول العربية الإسلامية، تصبح الحاجة الملحة من أجل الدعوة مجددا لحوار مباشر بين هذه الدول الأربع الكبرى: إيران وتركيا ومصر والسعودية، وصولا لعقد معاهدة وستفاليا عربية-إسلامية جديدة. ومن الواضح أن العديد من الدول الأوروبية والجهات الدولية تشجع مثل هذا الطرح، وبدل أن نتقسم هذه الدول بين محورين روسي أو أمريكي تتحول إلى قوة فاعلة في المشهد الإقليمي والدولي.
وقد لا يكون المجال في هذا المقال للحديث عن تفاصيل مثل هذه المعاهدة وشروطها، وما يمكن أن تتضمنه من بنود، لكن القاعدة الأهم التي يجب اعتمادها للوصول إلى مثل هذا الاتفاق التاريخي وجود إرادة حقيقية لتحقيق التسويات وإقامة الحلول لأزمات المنطقة وتقديم التنازلات المتبادلة بحيث تحفظ مصالح وحقوق شعوب ودول المنطقة على قاعدة حل النزاعات الشهيرة: رابح-رابح، وأن لا يكون هناك مهزوم أو خاسر.
طبعا سيقول الكثيرون إن هذه الدعوة مثالية أو خيالية وغير واقعية، وأن الظروف الحالية لا تسمح بحصولها، لكن في المقابل نقول: إن وصول كل هذه الدول إلى الحائط المسدود، وتخبطها في مشاكلها، وعدم قدرتها على الوصول إلى حلول لأزماتها الداخلية والخارجية.. قد يكون الدافع الأقوى للقبول بمثل هذا الطرح المثالي.