سنة سياسية صعبة، بل نارية أو مجنونة تدخلها
تونس. رئيس دولة ورئيس حكومة في خصومة علنية، والحرب مفتوحة بينهما، كل يستخدم نفوذه وعلاقاته في التأثير على الطرف الآخر، وتقليص حظوظه السياسية، وأحزاب تنحاز لهذا الطرف أو ذاك. والحزب الأول في البرلمان يبحث مع الجميع عن مخرج يقي البلاد شر المجهول.
مع آخر يوم في شهر آب/ أغسطس الماضي، وقبل يوم من بداية السنة السياسية الجديدة، التي تنطلق عادة في تونس مطلع شهر أيلول/ سبتمبر،
قال رئيس الحكومة، يوسف الشاهد وزير عينه بنفسه قبل نحو سنة؛ مسؤول عن حقيبة الطاقة والمناجم (وهو وزير محسوب على المركزية النقابية
الاتحاد العام التونسي للشغل، يوم كان الشاهد معها في وئام وانسجام)، ومع الوزير أقيل كاتب دولة وعدد من المديرين العامين والمديرين في الوزارة ذاتها، بعد تفجر فضيحة استغلال حقل نفطي ينتج وحده نصف إنتاج تونس من البترول بترخيص قانوني منتهي الصلاحية منذ تسع سنوات. ليتبين أن المسؤول القانوني عن الشركة المستغلة للحقل من دون ترخيص هو صلاح الدين قايد
السبسي،
شقيق رئيس الدولة الباجي قايد السبسي. وتنطلق حرب إعلامية بين مدين للشركة ومبرئ لها، ومتهم للحكومة ومدافع عنها، في حرب شعواء مفتوحة بين رئيس الحكومة ورئيس الدولة باستهدافه بتشويه أخيه، حرب لا يعرف أحد كيف تكون نهايتها.
فضيحة استغلال حقل نفطي ينتج وحده نصف إنتاج تونس من البترول بترخيص قانوني منتهي الصلاحية منذ تسع سنوات. ليتبين أن المسؤول القانوني عن الشركة المستغلة للحقل من دون ترخيص هو صلاح الدين قايد السبسي
في الأثناء، يجتمع حزب نداء تونس خصم الشاهد اللدود بوزرائه في الحكومة، ويصدر الحزب بعد الاجتماع بيانا يعلن فيه أن الوزراء التابعين له، وهم 15 وزيرا، قرروا الالتزام بقرار قيادة الحزب. ويبدو أن القيادة تنوي سحبهم من الحكومة حتى تسقط، ويتم تشكيل حكومة جديدة، ولا يعرف أحد كيف سيرد الشاهد على هذا الموقف الجديد.
محاربة الفساد أم استخدامه؟
منذ توليه رئاسة الحكومة، رفع
يوسف الشاهد شعار محاربة الفساد والوقوف إلى جانب تونس ضد الفاسدين. وتكرر شعار "إما تونس وإما الفساد" في خطابات رئيس الحكومة مرارا كثيرة. وكانت
الضربة الأولى الكبيرة في أيار/ مايو 2017، باعتقال رجل الأعمال شفيق جراية، الممول الرئيسي لحزب نداء تونس، وعدد من المسؤولين الأمنيين. وطالت الملاحقة وزير الداخلية الأسبق ناجم الغرسلي، ثم جاءت الضربة الثانية الكبيرة بإقالة وزير الطاقة والمناجم وكاتب الدولة وعدد من المديرين العامين والمديرين في الوزارة ذاتها، ليدعم الشاهد خطابه حول محاربة الفساد.
بينما يصدق الكثير من التونسيين رئيس حكومتهم في حربه على الفساد، يشكك تونسيون آخرون بحدة في جدية رئيس الحكومة في هذه الحرب، ويعتبرونها مندرجة فقط ضمن تصفية حسابات الحكم لا غير. ويستشهد هؤلاء بأن الفساد في البلاد يزيد ولا ينقص، والفاسدون الحقيقيون لا يشعرون بأن سيف الدولة مسلول فوق رؤوسهم يهدد بقطعها.. ولذلك، فإن ساحات التواصل الاجتماعي يغلب عليها التشكيك في الجدية محاربة الآفة التي توشك أن تفسد كل شيء في البلاد.
يشكك تونسيون آخرون بحدة في جدية رئيس الحكومة في هذه الحرب، ويعتبرونها مندرجة فقط ضمن تصفية حسابات الحكم لا غير. ويستشهد هؤلاء بأن الفساد في البلاد يزيد ولا ينقص
لقد ورثت تونس ما بعد الثورة نظاما سياسيا تركه الرئيس المخلوع ابن علي قائما على الفساد، باعتباره جزء من منهجية الحكم والثواب والعقاب، وطبقة رجال أعمال كثير منهم فاسدون، بنى أغلبهم ثرواتهم من خلال التهريب والرشوة والعمولات تحت الطاولة للحصول على الصفقات المربحة. ثم جاءت الثورة وضعفت الدولة واستغل الفاسدون الوضع، وتفاقم الفساد حتى غلب الاقتصاد الموازي القائم على التهريب أكثر من 54 في المئة من مجموع الاقتصاد التونسي، الأمر الذي جعل محاربة الفساد مطلبا سياسيا عريضا في الشارع التونسي، وجعل من أي شخص يحارب الفساد يصعد صعودا صاروخيا وسط الرأي العام. وهذا ما يعمل من أجل الاستفادة منه رئيس الحكومة، بحسب ما يرى خصومه، على الأقل.
الإعلام والفساد
كاتب هذه السطور إعلامي، ويعرف عن قرب أن قطاع الإعلام في تونس واحدا من أشد القطاعات فسادا في تونس، دون أن يعدم فيه الشريف ونظيف اليد والقلم، فمعظم الصحفيين طموحون، يخالطون كبار السياسة ورجال الدولة ورجال الأعمال، وترتفع تطلعاتهم الاجتماعية، ويرغبون في تحسين أوضاعهم، لكنهم يتلقون في مؤسساتهم الإعلامية رواتب هزيلة، تجعل الكثير منهم مستعدا لخيانة المهنة من أجل المال، ومن أجل تبييض الفساد وأن يكونوا قلما يدافع عنه ولسانا ينطق باسمه.
أكثر من ذلك، أصحاب المؤسسات الإعلامية يعيشون في سوق صغير؛ حجم الإعلانات فيه ضعيف جدا، ولا يكفي وحده لإعالة مؤسسات إعلامية كثيرة متنافسة. وإذا كان سوق الإعلان ذاته فاسدا تتلاعب به شركات قياس نسب المشاهدة، فلا مفر أمام كثير من رؤساء المؤسسات الإعلامية من اللجوء إلى المال غير النظيف لضمان العيش والاستمرار. هنا يجد الفساد ضالته، ويعشش ويفرخ
مدعوما من الإعلام؛ المفترض أن يكون سيفا مسلطا عليه.
هناك مؤسسات صحفية موالية لرئيس الدولة، تقاتل عنه عدوه، وأخرى موالية لرئيس الحكومة؛ تنافح عنه وتكشف فضائح خصمه
في تونس هذه الأيام يعرف الناس أن هناك مؤسسات صحفية موالية لرئيس الدولة، تقاتل عنه عدوه، وأخرى موالية لرئيس الحكومة؛ تنافح عنه وتكشف فضائح خصمه. هنا يكون الإعلاميون قد تخلوا عن الإعلام صاحب الرسالة، لنجد أنفسنا أمام إعلام البروباغندا والدعاية والدعاية المضادة، وهنا يتم اللجوء من قبل المتصارعين إلى التسريبات والمعلومات "الخاصة" و"الملفات الفضائحية". وترى وثائق الدولة المفترض فيها حدا من السرية معروضة على قارعة القنوات و"البلاطوات" السياسة والحوارية.
معسكرات متضادة.. وجماعة "بين بين"
يبدو أن معسكر الرئيس بات واضحا، فخلفه الحزب الذي يقوده ابنه حافظ قائد السبسي، ومعه المركزية النقابية الاتحاد العام التونسي للشغل، التي تستعجل إسقاط الحكومة واستبدالها، ومعه أيضا حزب مشروع تونس، وكتلة من نحو 50 نائبا في البرلمان، وقناة تلفزيونية معروفة تنافح عن الرئيس قليلا وتهاجم خصمه كثيرا..
في المقابل، معسكر رئيس الحكومة بات واضحا أيضا، معه
كتلة من نحو 35 نائبا في البرلمان وقطاع من حزب الرئيس يقل ويكبر كل يوم كمقياس الحرارة؛ حسب تغيرات المشهد السياسي، ومعه عدد من الصحف اليومية وقناة تلفزيونية، بل أكثر. ويتمتع فوق ذلك بالدستور الذي يعطيه صلاحيات واسعة في إدارة الحكم وإثابة هذا ومعاقبة ذاك، وهو جوهر السلطة السياسية.
بين الطرفين، تحاول حركة
النهضة (باعتبارها الحزب الأكبر في البرلمان والفائز في الانتخابات البلدية الأخيرة) إمساك العصا من الوسط، وإنقاذ البلاد من صراعات أبناء حليفها في الحكم (نداء تونس): رئيس الدولة ورئيس الحكومة، وإذ تفعل النهضة ذلك فليس عن طيبة وملائكية، بل عن مخاوف من أن
يؤدي الصراع المحتدم إلى إسقاط البيت على الجميع.
تحاول حركة النهضة (باعتبارها الحزب الأكبر في البرلمان والفائز في الانتخابات البلدية الأخيرة) إمساك العصا من الوسط، وإنقاذ البلاد من صراعات أبناء حليفها في الحكم
لا تزال النهضة ترغب في الإبقاء على الحكومة الحالية ورئيسها؛ لأن الوضع الاقتصادي والاجتماعي لا يسمح بخسارة وقت ثمين تستغرقه الحكومة الجديدة في اكتشاف الوضع وفهم الملفات، ومن ثم القدرة على القرار. في المقابل، تحرص النهضة على أن يلتزم الشاهد وحكومته بعدم الترشح لانتخابات 2019.
الروايات المتناقلة عن الاجتماع الأخير لرئيس حركة النهضة السيد راشد الغنوشي، يوم الاثنين الماض، مع رئيس الجمهورية السيد الباجي قايد السبسي، روايات كثيرة، فمن قائل إن الغنوشي حمل موافقة الشاهد على الالتزام بعدم الترشح لانتخابات 2019، وهو ما يبدو غريبا شيئا ما، بالقياس لطموح رئيس الحكومة الشاب، إلى قائل إن اللقاء كان لتذكير الرئيس بأنه وحزبه لا يمكن أن يستمرا في الحكم وحدهما، مع أن حزبه هو الحزب الثاني ولم يعد الحزب الأول، بعد انتخابات أيار/ مايو الماضي.
بعيدا عن الروايات، وآفة الأخبار رواتها، ما أعلنه الغنوشي بعد خروجه من اللقاء أنه حاول إقناع رئيس الجمهورية بإعادة تفعيل التوافق السياسي الذي حمى الثورة التونسية من المصير الذي آلت إليه باقي الثورات العربية الأخرى:
الانقلاب أو الحرب الأهلية، وأنه يريد تفعيل وثيقة "قرطاج 2" التي تحدد برنامج الحكومة السياسي والاقتصادي، بما فيها النقطة الأخيرة المعروفة بـ"
النقطة 64" التي اختلف عليها الفرقاء، التي تنص على أن تكون الحكومة غير معنية بالانتخابات القادمة، حتى تركز على إدارة الدولة وإنعاش الاقتصاد المتهاوي.
من تراه سيتغلب آخر الأمر؟ منطق الصراع أم منطق التوافق؟ ذلك ما قد يحدد مصير الثورة التونسية.