بعيداً عن قراءة التّقَلُّبات الفكرية لرئيس الوزراء
العراقي المُكَلَّف، عادل عبد المهدي، الذي تَنَقَّل بين البعثيين والقوميين والشيوعيين والإسلاميين "والمُستَقِلّين" فإن المرحلة التي كُلِّف فيها بمهمته صعبة جداً؛ لأنها مرحلة وَعي شعبي مُتنام حتى في مدن "الولاء" الجنوبية، نتيجة الأداء السيئ لغالبية القوى المُسيطرة على الحكم، وبالتالي هل سيكون المهدي سفينة النجاة للعراق، أم أنه استمرار للحالة السلبية القائمة في البلاد؟
بعض المُتابعين يُصرّون على "استقلاليّة" المهدي، وأعتقد أن من يقول ذلك يتابع الحالة العراقية من زاوية ضيّقة، ذلك لأن الذين جاؤوا بالمهدي هم رؤساء الكتل والأحزاب الفائزة بالانتخابات الأخيرة، ولهذا لا يمكن تصوّر وصوله لرئاسة الكابينة الوزارية إلا عبر بوابة التوافقات الحزبية، وبالمحصلة سنكون أمام شخصية يُقال عنها "مُستَقِلّة"، لكنها في الواقع ستنفذ أجندات أو رغبات كافة
الأحزاب المُتَنَفِّذة، وربما سنكون أمام شخصية واحدة بعدة أوجُه حزبية (التيار الصدري، المجلس الأعلى، منظمة بدر، حزب الدعوة، أو غير ذلك)، ولذلك أظن أن هذا النوع من الشخصيات التي يُقال عنها "مُستَقِلّة" هي أشدّ سعياً لإرضاء كافة هذه الأحزاب؛ لأنهم هم الذين جاؤوا بها إلى رئاسة الوزراء، وبالنتيجة لن يكون المهدي حُرّاً بكافة المقاييس المنطقية!
المهدي فتح باب الترشيح للوزارات العراقية أمام المواطنين، في سابِقة هي الأولى من نوعها. وفعلاً، قدم أكثر من 40 ألف مرشح سِيرَهم الذاتية، وقد أكد المهدي رفضه "الترشيحات التي تقدمها الأحزاب والكتل السياسية بعنوان: المُستَقِلّين"!
فما الذي تغير؟ ومنْ يمكنه أن يقتنع بأن
الحكومة المقبلة ستكون "مُستَقِلّة"؟ ومن أين جاءت هذه القوة للمهدي حتى يضرب، أو يقلب الطاولة على القوى التي رشحته لهذا المنصب، وهي قوى فاعلة في الميدان؟
بعض القوى الفائزة حددت شخصياتها للوزارات المطروحة (وبالذات السيادية منها)، وذلك وفقاً للاستحقاق الانتخابي، فكيف يمكن للمهدي أن يقبل شخصيات "مُستَقِلّة" عبر الموقع الرسمي للحكومة؟
هناك من يقول إن المهدي يستند في هذا الإصرار على "الكابينة المُستَقِلّة" على عدة شخصيات؛ أبرزها المرجعية الدينية في النجف، ومقتدى الصدر، الذي تنازل عن حصته من الكابينة الوزارية، لكن أتصور أن الأمر أكبر وأعقد من كونه يحتاج إلى دعم هذه الشخصية أو تلك؛ لأن الموضوع - بتقديري - لا يمكن أن يُمرّر إلا بدعم إقليمي أو دولي، أو أن المهدي يريد تنفيذ المستحيل بمثل هذه الدعوات غير الواقعية، ثم يعتذر في نهاية المطاف عن تشكيل الحكومة بعد إصرار القوى الفاعلة على مرشحيها، وحينها ستعود شخصيات "مُجَرَّبة" لتسنّم المنصب!
أظن أن المهدي أدخل نفسه في نفق لا يمكن أن يحدّد نهايته بسهولة؛ لأنه - ببساطة - غير قادر على إدخال شخصيات "مُستَقِلّة" في حكومته!
حتى الآن نشرت، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أكثر من 15 قائمة للكابينة الوزارية المرتقبة (منسوبة للمهدي، الذي نفى صدوها عن مكتبه)ـ فيها توزيع للوزارات والشخصيات الحزبية وفقاً للكيانات السياسية، وكأنها رسائل غير مباشرة للرئيس المُكَلَّف من القوى الفاعلة في المشهد السياسي!
الصعوبات التي تُواجه المهدي عديدة، وأبرزها ضرورة أن تكون حكومته من "المُستَقِلّين"، وكذلك دعوة "مقتدى الصدر" إلى "إبقاء وزارتي الدفاع والداخلية، وكل المناصب الأمنية الحساسة، بيد المهدي حصراً، ولا يحق لأي حزب أو كتلة ترشيح أيّ أحد لها". ونحن يمكن أن نتفهم هذا الشرط فيما لو كان المهدي قائداً عسكرياً، أما إبقاء الوزارات الأمنية بيد شخصية المهدي غير العسكرية، فهذا الأمر لا يصبّ في مسار السعي لإعادة الاستقرار في العراق عبر البوابة الأمنية.
الوزارات الأمنية هي من أخطر وأهم الوزارات في الدولة، وعليه هنالك ضرورة مُلحّة في وجوب اختيار شخصيات عسكرية مهنية مُستَقِلّة، وتُعطى صلاحيات حقيقية؛ لأن هذه الوزارات تُظهر حقيقة "هيبة الدولة" وتقضي على المظاهر المسلحة غير الرسمية، وتبتر ملف المليشيات، وتوقف عجلة الإرهاب والاغتيالات المستمرة على قدم وساق.
فهل سيفعلها المهدي ويعلنها حكومة عراقية "مُستَقِلّة"؟ أم أن اعتذاره عن المهمة، بسبب تشبّث القوى الفاعلة باستحقاقاتها الانتخابية، هو الخيار الأقرب والأمثل لحفظ ماء الوجه؟