في مؤتمر "مبادرة مستقبل الاستثمار" أو "دافوس في الصحراء"، الذي عقد في الرياض، وفي المداخلة التي ألقاها ولي العهد السعودي وضمت إلى جانبه رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري وولي عهد البحرين سلمان بن حمد آل خليفة، تعمد
ابن سلمان تجاهل أو إقصاء
اليمن من أجندته المتعلقة بمستقبل الدول العربية أو الشرق الأوسط - كما أسماها - خلال السنوات الخمس القادمة.
هذا التجاهل لا يدل على ضآلة المشكلة اليمنية، بل يؤشر على تزايد تحدياتها على ولي العهد الذي كان يحاول أن يتخفف من أثقال جريمة مقتل الصحفي البارز جمال خاشقجي، في الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، بقنصلية بلاده في مدينة إسطنبول التركية، بإمكانات الدولة
السعودية ورجال استخباراتها المحترفين ووفق خطة استخبارية كتب لها الفشل الذريع رغم ارتباطها بأعلى المستويات القيادية في الرياض.
فاليمن هو نقطة الضعف الخطيرة التي تتهدد مستقبل ابن سلمان، تماماً مثل جريمة القنصلية، وهما الآن تشكلان فكي الكماشة التي تحكم الخناق على طموح ولي العهد السعودي، وتهددان مستقبله الذي بناه على رضى الغرب، وتأسيساً على خطط ستسلخ السعودية عن هويتها التقليدية باعتبارها دولة دينية، مثلها مثل إيران، فهما تجسدان ما يعرف بمفهوم "الإسلام السياسي"، تماماً كما هي ولاية الفقيه في إيران تجسيد آخر لهذا الإسلام، ووسط تعهدات من ابن سلمان بأخذ بلاده بعيداً عن جذرها الأصولي الوهابي.
هذا التوجه تسانده اليوم الجهود والمحاولات الحثيثة لتأسيس تصور جديد بشأن الجذر الفكري لحركات العنف في المنطقة من تنظيم القاعدة إلى داعش، وهو ما كشفت عنه مداخلة وزير الخارجية السعودي عادل الجبير أمس السبت أمام منتدى حوار المنامة، عندما ذهب إلى البحث عن كبش فداء يمكن التضحية به للتنصل من التبعات الخطيرة الناجمة عن الحرب التي تمحورت حول مواجهة داعش والقاعدة، وأطاحت بأنظمة ودول، فلم يجد هذا الوزير سوى الإخوان المسلمين الذين اعتبرهم جذراً للنصرة وداعش وتنظيم القاعدة، في تحايل مكشوف للعيان.
في مؤتمر "دافوس في الصحراء"، أراد ابن سلمان أن يقدم نفسه زعيماً يقرر مصير المنطقة في لحظة مفصلية وخطيرة جداً تعترض طريقه نحو تثبيت هذه الزعامة، في ظل التحول الكبير في موقف داعميه الغربيين الذين يصعب عليهم طي صفحة جريمة سياسية كل الأدلة تشير إلى تورط ابن سلمان فيها، ونُفذت بهذا القدر من البشاعة والإصرار على إنهاء حياة شخص مسالم (هو جمال خاشقجي)؛ كان قد اختار طريقاً محترماً جداً وراقيا للتعبير عن آرائه وإيمانه بأهمية
الديمقراطية في منطقتنا.
اليمن ليس بقعة نائية في أقصى الأرض، بل هو العمق الديموغرافي والجيوسياسي للجزيرة العربية، التي تكاد أن تفقد هويتها الديموغرافية والثقافية، حيث شكل تركز الأموال النفطية في مدن الخليج خلال العقود السبعة الماضية؛ عامل جذب للطامحين في بناء الثروة من كل أنحاء العالم، ما أوجد تكتلاً سكانياً ابتلع الهوية العربية لمدن الخليج، فلم تعد توجد إلا في نشرات الأخبار وفي هيئة اللباس التقليدي لحكام الخليج.
الصراع الذي يدور في اليمن تجاوز عقدة الأحزاب ومراكز النفوذ المحلية، ليتحول إلى ساحة حرب بالوكالة؛ الحاضر الأخطر فيها هو إيران التي تحارب في اليمن بكلفة قليلة جداً قياساً بكلفة حربها في سوريا، وتعمل الآن على استنزاف القدرات العسكرية والمالية للسعودية، تساندها الإمارات التي تساهم عبر ممارستها الكارثية في إغراق ولي العهد الجموح في الرياض أكثر فأكثر في المستنقع اليمني.
في حرب الوكالة هذه، والتي تدور رحاها على الساحة اليمنية، تمكنت إيران وبتواطؤ الرياض وأبو ظبي وتحت غطاء غربي، من الاستحواذ دفعة واحدة على الدولة اليمنية بكامل أسلحتها وأموالها ونفوذها وسطوتها، وهي الآن تستثمر نزعة قادة المليشيا الحوثية المرتبطة حركياً بإيران نحو استعادة "الإمامة الزيدية" في جعل الحرب معركة أكثر تعقيداً وبكلفة باهضة للغاية، خصوصاً للطرف الذي يريد الحسم على حساب النفوذ الإيراني.
الإمامة الزيدية صيغة من الحكم الثيوقراطي تقوم على الادعاء بالحق الإلهي السلالي في الحكم، وسبق أن أسقطها اليمنيون في 26 أيلول/ سبتمبر 1962، بعد أن تمكنت خلال الفترة الممتدة من 1918 وحتى 1962 من فرض نفوذها على كامل جغرافيا اليمن الشمالي، بعد انسحاب الجيش العثماني، وتشجيع من بريطانيا التي كانت حينها تحتل وتهيمن على اليمن الجنوبي عبر مستعمرتها في عدن.
لا يمكن للمنطقة العربية أو الشرق الأوسط - كما يسميها ولي العهد السعودي - أن تستقر، ناهيك عن أن تزدهر، مع بقاء اليمن ساحة حرب مفتوحة، وبقاء قضية مقتل خاشقجي بعيدةً عن الحسم بمعايير القضاء العدلي النزيه، ولا يمكن للمنطقة أن تخطو إلى الأمام، طالما بقيت الديمقراطية غائبة، وسط هذه الغابة من الأبراج التي يشيدها ابن سلمان وابن زايد، ويعتقدان أنها تكفي لتصبح هذه المنطقة حداثية ومستقرة.