يقول لنا التاريخ إن قصة
اليهود مع أوروبا كانت قصة بالغة التعقيد والتشابك، ومليئة بالكراهية العميقة، وسندهش حين نعلم أن آرثر جيمس بلفور (1848 – 1938)، صاحب الوعد، كان يكن لهم كراهية شديدة، وحين تولى الخارجية البريطانية عام 1903، هاجم المهاجرين اليهود وأصدر قوانين تحد من هجرتهم إلى بريطانيا.. لويد جورج (1863 - 1945) رئيس الوزراء في الفترة من 1916 إلى 1922، كان أيضا يحمل نفس الكراهية، إن لم تكن أكثر. ويحتفظ التاريخ لنا بقانون طرد اليهود من بريطانيا (الملك إدوارد الأول) واتهامهم بتسميم آبار المياه ونشر الطاعون. لم تطأ قدم أحد من العائلة المالكة في إنجلترا إسرائيلَ، والأمير تشارلز زارها فقط مرتين ولحضور جنازة رابين وبيريز، لكن روايات كثيرة ستروى عن دور عائلة روتشيلد الثرية وتغلغلها في الحياة المالية والمصرفية في إنجلترا، ما كان له تأثير ملموس على كثير من الساسة الإنجليز، خاصة خلال الحرب العالمية الأولى.
سيكون هاما هنا أن نتذكر الدور الهام لحركة الإصلاح الديني البروتستانتي في القرن السادس عشر (لوثر وكيلفين).. حركة الإصلاح الديني هذه أحدثت تغييراً جذريا في الموقف من اليهود، وهو الموقف الذي تولدت عنه نظرة جديدة للماضي والحاضر والمستقبل اليهودي، وهي التي ساهمت في بعث اليهود من جديد. لم يكن في العقيدة الكاثوليكية أدنى فكرة عن عودة اليهود إلى
فلسطين أو بعث الأمة اليهودية من جديد؛ لأن هذه الأمة طبقا لعقيدتهم انتهى وجودها بظهور السيد المسيح، والفقرات الواردة في العهد القديم، التي تتنبأ بعودة اليهود إلى فلسطين وبمستقبل مشرق لإسرائيل، لا تنطبق على اليهود، بل على الكنيسة الكاثوليكية مجازاً؛ لأن اليهود طبقاً للعقيدة الكاثوليكية اقترفوا إثماً كبيرا، فأخرجهم الله من فلسطين إلى منفاهم في بابل، وعندما رفضوا دعوة السيد المسيح نفاهم الله ثانية، وبذلك انتهت علاقة اليهود بأرض فلسطين إلى الأبد. (وزير خارجية عُمان قال تعقيبا على زيارة نتنياهو الأخيرة، في 26 تشرين الأول/ أكتوبر، لبلاده: "التاريخ يقول إن التوراة رأت النور في الشرق الأوسط، واليهود كانوا يعيشون في هذه المنطقة من العالم".. سلمت وسلم فوك، وسلم مدرس التاريخ الذي علمك!).
إذن، هو المذهب البروتستانتي الذي قلب الأمور رأسا على عقب من خلال التغيرات اللاهوتية التي جاء بها، والتي روجت لفكرة "اليهود أمة مفضلة"، وضرورة عودتهم إلى فلسطين كمقدمة لعودة المسيح المنتظر.. سيحدث هذا اهتماما كبيرا بعدها بالعهد القديم (التوراة)، تحت شعار العودة إلى الكتاب المقدس كمصدر للعقيدة النقية، وسيحدث اهتمام مريب باللغة العبرية باعتبارها اللغة الأصلية للكتاب المقدس. ولكي يفهم المؤمنون كلمة الله بشكل صحيح، لا بد لهم من معرفة اللغة الأصلية التي كتب بها. وإذ يكون ذلك كذلك، ستنتاب الجميع "نوبة لغوية مفاجئة" وينكبوا (علماء ومصلحون وحتى العامة) على دراسة اللغة العبرية وتعلمها.. موقف الإنجيليين في أمريكا من الدعم الأعمى لإسرائيل ما هو إلا تجل لفكرة الرابطة الأبدية بين اليهود وفلسطين؛ التي جاءت بها حركة الإصلاح باعتبارها وطنهم القومي الذي أخرجوا منه، والذي يجب أن يعودوا إليه طبقاً للنبوءات الواردة في العهد القديم، على الرغم من أن عددا كبيرا من الجماعات اليهودية ترفض فكرة الوطن القومي أو الدولة، واستنادا لأسباب توراتية، جماعة "ناطورى كارتا" مثلا.
سيلاحظ كثيرون أن هناك بهذا الصدد وثيقة عرفت باسم "وثيقة كامبل"؛ تحدثت عن ضرورة إقامة حاجز بشري بين الحضارة الإسلامية في أفريقيا عنها في آسيا. هذه الوثيقة تحدث عنها الراحل الأستاذ هيكل في كتاب "المفاوضات السرّية وإسرائيل"، لكنه أوردها باسم وثيقة بانرمان (الاسم الثالث لكامبل). والحاصل أن حزب المحافظين البريطاني دعا الدول الاستعمارية الكبرى في العالم (بريطانيا، فرنسا، هولندا، بلجيكا، إسبانيا، إيطاليا) إلى مؤتمر في لندن عام 1905، وخرجت هذه الدول بالتوصية التالية: "على الدول ذات المصلحة أن تعمل على استمرار تأخر المنطقة (الإسلامية) وتجزئتها، وإبقاء شعوبها مضللة جاهلة متناحرة، وعلينا محاربة اتحاد هذه الشعوب وارتباطها بأي نوع من أنواع الارتباط الفكري أو الروحي أو التاريخي، وإيجاد الوسائل العملية القوية لفصلها بعضها عن بعض. وكوسيلة أساسية مستعجلة ولدرء الخطر، توصي اللجنة بضرورة العمل على فصل الجزء الأفريقي من هذه المنطقة عن جزئها الآسيوي. وتقترح لذلك إقامة حاجز بشري قوي وغريب، بحيث يشكل في هذه المنطقة، وعلى مقربة من قناة السويس، قوة صديقة للاستعمار وعدوة لسكان المنطقة..".
سنعلم أن "وثيقة كامبل" ما كانت إلا امتدادا طبيعيا لقصة "الشرق والغرب". فالغرب الاستعماري كان يعدّ لمنهج جديد ومراجعة شاملة لتاريخه وتاريخ العالم وعلاقاته الصدامية المستمرة مع العرب والمسلمين. هذه الوثيقة سبقت
وعد بلفور الذي لم يكن سوى تطبيق لأحد أهم مقررات الوثيقة وهو فكرة إقامة الحاجز البشري الغريب من اليهود على أرض فلسطين. وبنهاية الحرب العالمية الثانية يخرج الاحتلال ويترك مكانه ذلك الحاجز الغريب الشاذ الذي ارتكز على خرافة الإصلاح البروتستانتي بالربط العبثي بين فلسطين ووطن لليهود فيها، أيضا - وهو الأهم - على توصيات مؤتمر لندن "وثيقة كامبل"، واكتملت الضفيرة بين الاعتقاد والاغتصاب وقامت
إسرائيل. ومن يومها وحتى يومنا هذا، ستتم كتابة أحداث ووقائع تاريخ الأمة كلها من هذا التاريخ الحزين، وتثبت لنا الأيام ولياليها الظلماء بأنه ليست فلسطين فقط ما فقدناه من وعد بلفور.
ونختم هنا بهذا البند الخطير الذي ورد في وثيقة "إسرائيل 2020" التي صدرت عام 1997 في 18 مجلدا، بعنوان "لنحول الحلم إلى حقيقة"، ونشرها مركز دراسات الوحدة العربية. يقول هذا البند: بحلول عام 2027، ستكون قوه إسرائيل لا يمكن قياسها إلى أي دوله عربيه عسكريا واقتصاديا، وسيكون بجانبها كيان فلسطيني في الضفة وغزة له إدارة ذاتية مع ربط الجيش والأمن بالدولة الإسرائيلية.. ليس هناك ما يسمى دوله فلسطينية كاملة السيادة.. وليس هناك ما يسمى بحق العودة. وستقام علاقات دبلوماسية كاملة مع كل الدول العربية والإسلامية بلا استثناء. السلام لا يعني إسرائيل إلا في أمرين: 1- توسيع الاستثمارات 2- تعزيز الهجرة إلى إسرائيل.
وقد بذلت لكم نصحي بلا دَخَل *** فاستيقظوا إن خير العلم ما نفعا