قضايا وآراء

سوريا الجديدة.. لا خوف منها ولا خوف عليها

"الصراع ما زال قائما، وستحمل جزءا كبيرا من فاتورته، تلك التجربة الوليدة في سوريا الجديدة"- جيتي
توقع كثير من العقلاء أن يكون التعاطف والتقارب مع سوريا الجديدة، شعورا إنسانيا طبيعيا يفوق أي شعور آخر، والفطرة أهدى من العقل كما يقولون، ليس فقط لأن خمسين عاما من القهر والاستبداد التام والظلم الطائفي بالغ القسوة والوضوح كفيلة باستدعاء هذا التعاطف، ولكن وهو الأهم لأن الميراث الثقيل الرذيل الذي تركه هذا النظام، أشبه ما يكون بصخرة ضخمة فوق صدر هذا الشعب والحكومة القائمة، التي جاء بها التاريخ.. التاريخ الذي يحابي من يعرفه ويفهمه، ويجافي من يجهله وينكره.

لكن الموقف (إقليميا ودوليا) كان على غير المرجو والمأمول للأسف، والذي تبدّى أكثره في درجات متباينة من الخوف والترقب والحذر، وبلغ عند البعض إلى حد "الاستعداء" غير الضروري وغير المبرر وغير المفهوم في الحقيقة.

* * *
الموقف (إقليميا ودوليا) كان على غير المرجو والمأمول للأسف، والذي تبدّى أكثره في درجات متباينة من الخوف والترقب والحذر، وبلغ عند البعض إلى حد "الاستعداء" غير الضروري وغير المبرر وغير المفهوم في الحقيقة

الحالة العربية إقليميا سارعت فورا إلى الماضي التقليدي، وأرادت أن توقف عجلة التاريخ عن الحركة، وفورا تم استدعاء "العنوان الجاهز" الذي عمل "الاستشراق الغربي" طويلا على تصنيعه وتحضيره للنيل من "الفكرة الدينية" التي أقامت الشرق وحضارته وتاريخه، ما دعي المفكر الفرنسي ميشيل فوكو (ت: 1984م) ليقول إن "الإسلام ليس مجرد دين، بل هو أسلوب حياة متكامل، وولاء لتاريخ وحضارة كبيرة" كما جاء في كتاب "فوكو في إيران" الذي صدر في عام 2021م للمؤرخ الإيراني "بيروز تبريزي" وترجمه "أ. على بدر" و"أ. فرح شرف". وهو ما جعلهم يقولون في الغرب أن "فوكو ببساطة حاول أن يرى، ما أفلت من رؤانا الثقافية".. هذا في أحسن الظنون بهم!

وميشيل فوكو هو من نحت للمثقفين العرب هذا التوصيف اللئيم "الإسلام السياسي"! بعد حديثه الطويل عما سماه "الروحانية السياسية".

الحاصل أن انشغال الغرب بالإسلام سيمتد ويتسع ويملأ الدنيا عندهم ويشغلها، ليظهر لنا أحد أهم مستويات انشغال العقل الغربي في كل وقت ومكان، ولأسباب متنوعة، حول "حركة الإسلام وإسهامه في نظام القيم العالمي"، وهو الأمر الذي يقف الغرب ضده باستكبار وإصرار وعناد، قد يصل إلى الحرب الخفية والمعلنة.. والقصة تتداخل فيها عوامل كثيرة، ليست فقط تاريخية ولا فقط دينية، ولا فقط رأسمالية واقتصادية، بل كل ذلك وإضافات أخرى حول ذلك.

* * *

الميراث "العربي الرسمي" في الصدام مع "حركات الإصلاح والنهضة" صراع قديم موصول بالخيوط الأولى مع موقظ الشرق "جمال الدين الأفغاني" (ت: 1879م) رحمه الله، وصيحته المبكرة في ديار المشرق العربي والإسلامي، وللموضوع تفصيلات كثيرة تتصل بالتحضير الغربي في بدايات القرن العشرين للدولة العربية الحديثة، دولة ما بعد "الخلافة العثمانية" وليس هذا موضوعنا هنا.

لكننا سنجد بعدها أن الصراع الذي كان خفيا، ويتم تحت الطاولة، أصبح علانية وجهرة، بعد انتهاء الغرب من حربين عالميتين، ونهاية وجوده التقليدي في المستعمرات، وقيام "الدولة القومية الحديثة".. التي قامت بتخطيطه وتنفيذه ثم رعايته.

وسنجد أحد كبار حركة "الضباط الأحرار" في مصر خالد محيي الدين رحمه الله (ت: 2018م) يحدثنا في مذكراته "الآن أتكلم"، عن حوار بينه وبين الصحفي المصري/ الفرنسي "أريك رولو" (ت: 2015م) عن الرعاية الكاملة التي حظي بها "عبد الناصر" من الغرب من 1952م، سواء في الصراع حول طبيعة "الحكم الجديد" بينه وبينه اللواء محمد نجيب رحمه الله (ت: 1984م) قائد "حركة الضباط" وقتها، أو بعد ذلك في المساهمة الكبيرة في تأسيس "الأجهزة الأمنية والدعائية" التي اعتمد عليها في الحكم بعد ذلك.

* * *

وسنجد أنفسنا حائرين الحقيقة في معرفة ماهية هذا الصراع، بين النظام العربي الرسمي وحركات الإصلاح؟ والذي أصبح من أبجديات السياسة العربية الرسمية، وهل كان من الممكن تفاديه، بعد تبين موازين القوى والرعاية الاستعمارية الممتدة؟ أم أنه كان محتوما، بغض النظر عن ذرائعه التي أٌعلنت وقتها؟

أيا ما كان الأمر، فالحاصل أن الصراع ما زال قائما، وستحمل جزءا كبيرا من فاتورته، تلك التجربة الوليدة في سوريا الجديدة.. خاصة بعد أن ظهر من عناوينها المبكرة الناضجة، أنها تتصل بالخط التاريخي لحركات الإصلاح.

* * *
على الرغم من خصوصية الثورة السورية (الطائفية والمقابر الجماعية)، إلا أن المهتمين بالتطور الفكري والحركي للتنظيمات الإصلاحية، سيدعوهم ما يرونه من تطور تلك التجربة الوليدة، للوقوف طويلا أمام ما يجرى ويحدث الآن من تغيرات وتحولات عميقة في المسارات والاختيارات، خاصة على مستوى الخطاب السياسي والفكري

لكننا رأينا اختراقا شجاعا -الحقيقة- لما بدا خطأ ووهما، أنه "قدر محتوم" بأبدية هذا الصراع.. وأتحدث هنا عن الموقف الخليجي المتنوع من زيارات من وإلى دمشق، وهو موقف شجاع ومقدر، ويكفي حدوثه، ولا مجال للتنظيرات حول دوافعه وخلفياته ورعاته.

وأرجو رجاء كبيرا أن يكون خطوة واسعة للأمام في الاتجاه التاريخي التصحيحي، والصحيح، بل ويحدونا الأمل أن تليه خطوات أخرى في الحالة العربية كلها، بعد أن أزالت هذه الخطوة، قلقا غير مبرر وغير مفهوم كما سبق، بل وغير ضروري، ولا مطلوب.

* * *

هذه الخطوة بقدر ما أحدثته من تطمينات في "الخوف من" ما يجرى في سوريا، فقد أحدثت للمتفائلين تطمينات في الجانب الآخر من "الخوف على" ما يجرى في سوريا؛ ليس فقط للرعاية التركية المعلنة وغير المعلنة، وهي رعاية سيذكرها التاريخ كثيرا في صفحاته الاستراتيجية الأكبر والأكثر تأثيرا في مجريات التاريخ المعاصر، ولكن أيضا للنضج الظاهر في قيادات التحول الجديد في سوريا.

وأيا ما كانت "المصالح التركية" في كل ذلك، فهي في نهاية الأمر مصالح طبيعية، وفي سياقها التاريخي والمنطقي، وتخلو من خبائث "المصالح الغربية" الشهيرة.

* * *

وعلى الرغم من خصوصية الثورة السورية (الطائفية والمقابر الجماعية)، إلا أن المهتمين بالتطور الفكري والحركي للتنظيمات الإصلاحية، سيدعوهم ما يرونه من تطور تلك التجربة الوليدة، للوقوف طويلا أمام ما يجرى ويحدث الآن من تغيرات وتحولات عميقة في المسارات والاختيارات، خاصة على مستوى الخطاب السياسي والفكري، كون كثير من تلك التنظيمات عانت كثيرا من التشتت والاختراق، وغياب الحس التاريخي والاستراتيجي عن أفكارها حين تفكر، ومواقفها حين تقف، وتحركاتها حين تتحرك.

إنها اللهفة إلى النهار..

x.com/helhamamy