أروقة السياسة في إيران تشهد منذ عام تقريبا صراعا محتدما بين القوى السياسية حول الانضمام إلى مجموعة العمل المالي الدولية (FATF) التي أدرجت إسم إيران على قائمتها السوداء عام 2009 إلى جانب دول أخرى. ثم وفي بيان عام للمجموعة، اتهمت إيران وكوريا الشمالية بالقصور الإستراتيجي في مكافحة "غسيل الأموال وتمويل الإرهاب"، مطالبا الدول الأعضاء والمؤسسات الدولية باتباع "إجراءات مضادة" بحقهما.
شرعت حكومة روحاني بعد التوقيع على الاتفاق النووي في يوليو 2015 في اتخاذ إجراءات لانضمام إيران إلى مجموعة FATF، والذي يتطلب تنفيذ توصياتها الأربعين من خلال إصلاح قوانين داخلية تتوافق مع معايير مطلوبة لمكافحة غسيل الأموال وكذلك التصديق على أربعة لوائح هي: الإنضمام إلى إتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة، إصلاح قانون غسيل الأموال، وإصلاح قانون مكافحة تمويل الإرهاب، والانضمام إلى إتفاقية مكافحة تمويل الإرهاب (سي أف تي).
تزامنا مع محاولات إيران للإنخراط في مجموعة العمل المالي الدولية، علقت الأخيرة في حزيران/يونيو 2016، إجراءاتها المضادة ضد إيران لعام واحد ثم تم تمديد هذه المهلة عدة مرات في عامي 2017 و2018، ويفترض أن تنتهي في شباط/فبراير المقبل.
أن تكون إيران مندرجة في القائمة السوداء لهذه الهيئة المالية الدولية، يعني تعرضها لعقوبات إضافية فضلا عن العقوبات التي أعادت الولايات المتحدة الأمريكية فرضها عليها بعد الإنسحاب من الإتفاق النووي في أيار/مايو الماضي. لذلك كثفت الحكومة الإيرانية من جهودها للانضمام إلى FATF من خلال القيام بإصلاحات مالية ومصرفية، وكذلك إقرار اللوائح الأربعة.
إقرأ أيضا: "فاتف" تمهل إيران لإنهاء إصلاحات خاصة بغسل الأموال
بين تلك اللوائح التي أقرها البرلمان الإيراني بعد جدال ساخن وناري في أروقته، كانت لائحة الإنضمام إلى إتفاقية مكافحة تمويل الإرهاب (سي أف تي) محل خلاف كبير بين الحكومة والقوى السياسية المناصرة لها وحتى أصوليين معتدلين مثل رئيس البرلمان الإيراني من جهة، وبين القوى والمؤسسات المحافظة من جهة أخرى.
يقول المعارضون إن تعريف "FATF" للإرهاب يتعارض في كثير من الأحيان مع نصوص قانونية ودستورية في إيران، بما فيها "قانون مكافحة الإرهاب"، وأن الانضمام إلى هذه المعاهدة يستهدف الدعم الإيراني لحركات المقاومة في فلسطين ولبنان، والبعض يذهب أبعد من ذلك بالقول إنه الحرس الثوري الإيراني أيضا ليس بعيدا عن هذا الإستهداف مستقبلا.
لم تنجح مساعي الحكومة "التطمينية" في تهدئة مخاوف المعارضين من خلال إدراج نصوص في مشاريع اللوائح مثل التأكيد على "الدعم لنضال الشعوب ضد الاحتلال والمستعمرين"، والتأكيد على أن هذه الهئية المالية الدولية لا تتعامل إلا مع العقوبات الأممية وقوائم الأمم المتحدة للإرهاب، والتي لا تتضمن الجماعات التي تدعمها إيران مثل حزب الله، وحركتي حماس والجهاد الإسلامي وحركات أخرى.
وصل هذا الخلاف إلى حد بعيد، مثل تخوين المؤيدين وتهديد البرلمانيين لمنعهم من إقرار مشروع قانون الانخراط في "سي أف تي"، وأيضا جمع التواقيع في البرلمان لاستجواب وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف بعد أن أشار خلال مقابلة صحفية إلى غسيل الأموال في البلد، متهما معارضي هذه اللوائح بأن لديهم "دوافع اقتصادية" في معارضة القوانين المضادة لغسيل الأموال.
بعد معركة كر وفر، أقر مجلس الشورى الإسلامي إنضمام إيران إلى إتفاقية "سي أف تي" في تشرين الأول / أكتوبر الماضي بعد أن صادق مسبقا على اللوائح الثلاث الأخرى بتحفظ، إلا أن مجلس صيانة الدستور رفضه من خلال مآخذه الـ 22 على مشروع القانون، بعد ذلك تدخل مجمع تشخيص مصلحة نظام من خلال هئيته الرقابية وليس مستبعدا أن يتم إحالة الموضوع إلى مجلس الأمن القومي ليففصل في ذلك ويتخذ قرارا نهائيا.
مواقف مترددة
على الأغلب هذه الضجة والتردد الموجود لن يمنع إيران في نهاية المطاف من الإنخراط في مجموعة العمل المالي الدولية من خلال إقرار تلك اللوائح الأربعة بشكل نهائي وإعمال الإصلاحات المطلوبة، وكما يقول النائب عن طهران في مجلس الشورى "محمود صادق" إن قرار النظام النهائي هو الإنضمام إلى FATF.
هذا الإنخراط سيسهل بشكل كبير عمل القناة المالية (Special Purpose Vehicle) التي ينوي الأوروبيون إنشاءها للتعاملات المالية مع إيران بعد عودة العقوبات الأمريكية، إن لم يكن ذلك شرطا أوروبيا لتأسيس القناة كما تقول مصادر إيرانية.
سواء كانت دوافع معارضي الإنضمام إلى مجموعة العمل المالي الدولية وبالذات إتفاقية مكافحة تمويل الإرهاب محقة أم لا، إلا أنه في ظل العقوبات الأمريكية ضد البنوك والمؤسسات المالية الإيرانية والتعاملات المالية الخارجية مع طهران لا يبدو أن الإنخراط في هذه الهئية يعود بمنافع كثيرة لها في الوقت الحاضر.
كما أن القوى المعارضة تؤكد أنه بعد الإنضمام إلى هذه الإتفاقيات الدولية تصبح أسرار الدولة مكشوفة للإستخبارات العالمية، ما يصعب على إيران الإلتفاف على العقوبات الأمريكية بالطرق المعتادة سابقا.
بين آراء المعارضين والموافقين المتضاربة، وتبريرات كل طرف، يبدو أنه اذا كان قد حدث هذا الإنخراط قبل الإنسحاب الأمريكي من الإتفاق النووي، كان من شأنه أن يساهم في جذب استثمارات أجنبية، وتعزيز العلاقات المالية بين البنوك والمؤسسات المالية الإيرانية وبين المؤسسات الدولية ونظرائها في الدول، أما أن يأتي ذلك بعد عودة تلك العقوبات، فإنه لا يعيد تلك الفرص "المهدورة" من جهة، ولا يشكل اختراقا للعقوبات الأمريكية من جهة أخرى، لكن من شأنه أن يحول دون تعرض طهران لعقوبات مشددة إضافية، هي في غنى عنها في هذه الظروف الإقتصادية الصعبة.
سؤال الأخلاق في سياسة السعودية تجاه خاشقجي
ما بعد سريان العقوبات الأمريكية ضدّ إيران