من السيرة النبوية إلى المسيرة البشرية

بدهي أن الحقبة النبويَّة هي مدرسة هذه الأمة؛ النموذج الأمثل الذي ينبغي أن يُقاس عليه، ويُرجَع إليه. فقد كان المدد يتنزَّلُ من السماء لحظة بلحظة مُصوِّبًا الإنحرافات في تصورات البشر، ومُتدرِّجًا في اجتثاثه لبقايا الجاهليَّة من نفوس العُصبَة المؤمنة، ومبلورًا التصورات الإنسانيَّة الكُليَّة على الصورة التي ارتضاها خالقها لتحكُم حركة الإنسان إلى قيام الساعة.

لقد ضمن وجود النبي الموحى إليه حالة من التوازُن الرباني لهذا المجتمع. لم تكن حالة عصمة لهذا الجيل الفريد، بل قدرٌ من الثبات على حدٍ أدنى من صحَّة التصورات وجلائها، والتزام عفيف بأقرب المسلكيات للحق؛ قدر يتفق مع ويليق بعصمة الوحي والموحى إليه عليه وآله الصلاة والسلام. 

 

الحقبة النبويَّة هي مدرسة هذه الأمة؛ النموذج الأمثل الذي ينبغي أن يُقاس عليه، ويُرجَع إليه.

وبانتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى؛ انتقل المجتمع من اللحظة التي حُفِظَ فيها الحد الأدنى إلى لحظة بشريَّة لا يحكُم الوحي حركتها بشكلٍ مُباشر، بل من خلال ما بلَّغه وسنَّه الموحى إليه صلوات الله وسلامه عليه وآله، وغرس نبته الوارِف في نفوس أصحابه؛ البشر المُقصِّرين. لحظة بشريَّة نموذجيَّة انقطع مددها الآني المباشر، فصار مدد غير مباشر من الوحي الذي اكتمل في صورة كتابٍ يوجِبُ الإجتهاد في رحابه لحمل عباراته على مُراد مُرسله سُبحانه.

وفكرة الإجتهاد في حد ذاتها تعني زيادة أثر العامل البشري في حمل الوحي على مُراد مُرسله سبحانه، خصوصًا كلما تطاول الأمد وبعد عهد الخلف بالسلف. وهي زيادة الأثر التي دُشِّنَت إبان الخلافة الراشدة قريبة العهد بأنوار النبوة. 

إن الاجتهاد في جوهره اقتفاءٌ لسُنَّة الموحى إليه، واستحضارٌ لتمثُّله وتنزيله صلى الله عليه وسلم للأوامر الإلهية على الأقضية المتجددة. ومن ثم كانت الخلافة الراشدة لحظة نموذجية اجتهاديَّة قصيرة ـ كطبيعة نمطها ـ لإقامة الحُجة على بني آدم وإثبات إمكان تطبيق المنهج داخل التاريخ بصورة تقترب من الأصل، وبدرجات متفاوتة؛ على أيدي بشرٍ لا يتمتعون بأي عصمة. ومن ثم كان مستحيلًا ـ طبقًا للنواميس الإلهية ـ أن تطول هذه الحقبة أكثر، أو أن يصبغها هدوء وتوافُق وانسجامٌ لاإنسانيَّان؛ وإلا صارت طوبيا فردوسيَّة نهائية، وفقدت قيمتها التربويَّة وهدفها في إقامة الحجَّة على بني الإنسان، بل وفقدت قابليتها للتكرار. 

خلاف السقيفة

لم تطُل هذه الحقبة لأكثر من ثلاثين عامًا، بل لقد بدأت تتآكل من داخلها من أوَّل يوم بفعل بشريَّة الصحب الكرام. فبدأ خلاف السقيفة في اختيار خليفة النبي، والذي طال كل الأكابر تقريبًا؛ وتلاهُ رِدَّة القبائل ومنعها للزكاة في عهد الصديق، ثم فتنة "التمكين" في عهد الفاروق، والتي ما إن تمكَّنت من القلوب حتى أضرمت فتنة هي الأشد والأبعد أثرًا في تاريخ الأمة؛ تحديد طبيعة السلطة السياسيَّة ودورها، وهي الفتنة التي لم تسفِك دم ذي النورين فحسب، بل وأدَّت لانغلاق النسق النموذجي المنفتح بعده، بشكل يكاد يكون شبه كامل؛ ليتسلَّم الإمام علي أمَّة تشوَّشت تصوراتها بدرجة واضحة، حتى ليقتله بعض الحمقى المنسوبين إليها مُعتبرًا ذلك قُربى إلى الله!

فإذا ما وصلنا للحُسين بن علي، عليهما السلام؛ كان الباطل قد تزيَّا بزي الحق، ليجعل مهمَّة ابن رسول الله أصعب ممن سبقوه من الراشدين، بل حتى أصعب من مهمّة جده خاتم الأنبياء، الذي كان يُقاتل شركًا ظاهرًا. لقد أمسى الشرك في زمان الحُسين، وفي كل زمانِ بعده؛ كامنًا مُستترًا، وإن طفر في تعبيد الخلق للملوك. لم يكسر الحُسين النسق الذي انغلق في عهد أبيه، إذ كان التيار الطاغوتي شديدًا؛ ولم تكُن لحظة التجديد قد حانت بعد. وانحصر دوره عليه وآله السلام في إقامة الحُجة وإثبات الحق بدمه ودماء آل بيته.

لقد أدرك الحسين هو الآخر جوهر السنن الربانية؛ فعلم أننا لم نُتعبَّد بخلق ولا إطالة اللحظات النموذجية، بل بدوام السعي لتحقيقها؛ بدوام إقامة الحُجة على الأحياء.كان عليه السلام يؤمن أن الخلاص الكامل لا يتحقَّق الآن وهُنا، فهذه دار كبد وشقاء؛ وأن الطريق التي يتوارى فيها الكبد، لحساب الطوبيا الهانئة الناعمة؛ هو ضلالٌ بيّن. إذ التمكين المادي الكامل لبني آدم مُستحيلٌ في الدنيا استحالة خلودهم فيها. فشَهِدَ الحسين بدمه أنه وارث آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وحضرة جده المعصوم؛ صلوات الله عليهم وسلامه.

العصبة المؤمنة

وها هُنا، وعلى يد الحسين الشاهد الشهيد؛ تترسَّخ وظيفة العُصبة المؤمنة في زمان الفِتن، كما ترسَّخت وظيفة الأمة التي أينعت زهرتها بالوحي الذي تنزَّل من فوق سبع سماوات. فإذا كانت وظيفة الأمة هي الشهود على البشرية، فإن وظيفة العُصبة المؤمنة/ الكتلة الحرجة/ أمة البلاغ هي الشهود على الأمة نفسها. وإذا كانت وظيفة الأمة هي إقامة الحجة على الإنسانية، وتذكيرها بميثاق الفطرة لإعادتها إلى خالقها؛ فإن وظيفة العصبة المؤمنة هي إقامة الحجة على الأمة نفسها، وتذكيرها بمهتمها الوحيدة في هذا الوجود؛ مهمة الدعوة والشهود على البشرية، وهي المهمة التي لا يُمكن أن تتحقق بأي وسيلة أو طريق إلا الطريق الذي أراده الله واختطه لها. الدعوة إلى الله بالنفس، بالقدوة الحسنة؛ وإلا صارت الأمة حينها فتنة وأداة للصد عن سبيل الله. 

إن الوظيفة الأساسية للعُصبة المؤمنة مُستمدَّة من وظيفة الأمة، وهي تكثيف لوظيفة الأمة وتركيز لها، إنها وظيفة أخلاقيَّة: وظيفة مراقبة اضطلاع مجموع الأمة بوظيفته الأخلاقية تجاه الإنسانية. والمسؤولية الأعظم لهذه العُصبة المؤمنة مسؤولية أخلاقيَّة كذلك؛ مسؤولية تذكير الأمة بأنها لا يُمكن أن تدعو إلى الله بنفسها إلا إن استقامت على أمره، وجاهدت في الحفاظ على هذه الاستقامة ما وسعها. إن المهمة الأولى والأخيرة والوحيدة لهذه العُصبة هي تذكير الأمة بالأمر الإلهي لنبيه ومن آمن معه: "فاستقم كما أمرت، ومن تاب معك؛ ولا تطغوا، إنه بما تعملون بصير". 

 

إقرأ أيضا: أزمة العقل الإسلامي في الوقت الراهن