يتساءل الكثير من الناس عن أسبقية بناء العمارة والمصنع أولا، أم بناء الإنسان؟ مجتمعات أجابت بطريقة صحيحة، وأخرى قدمت الإجابة غير الصحيحة. وعلى أثر هذه الإجابات، تشكلت المجتمعات المعاصرة، وترتبت طبقات المجمعات والدول اقتصاديا وعسكريا وسياسيا.
صمم الغرب واليابان وسنغافورة وكثير من الدول؛ نظامها قيميا حضاريا، وترجموه سلوكا عمليا وثقافة عامة في شعوبهم، فأنتجوا مجتمعات واعدة تمتلك:
1- فضاءات تفكير واسعة لا محدودة من التفكير، وتطوير كل شيء بلا قيود ولا معوقات.
2- طموحا كبيرا وحافزية ذاتية لتحقيقه.
3- تصورات فطرية طبيعية سوية صحيحة عن مفردات الكون وعلاقاتها بها.
4- علاقات بينية جيدة ومجتمعات مستقرة متماسكة.
5- سلوك جيد نسبيا وقابل للتحسن باستمرار.
6- أداء مهني ممتاز ودائم الرقى في معاييره.
7- إنجازات حضارية متجددة ومتسارعة، بمعدل نمو يغير مسبوق على الكون.
نموذج قيمة الإتقان/ الإبداع
يطرح الغرب سؤال الإتقان بصيغة: كيف نتقن؟ قاصدا به الإتقان في كل شيء يمكن أن يفيد الإنسان ويقدم له مصالح ما ويساهم في سعادته. فانطلق عقله للبحث في كل ما يمكن أن يحقق الإتقان، ومضى في رحلة مفتوحة حتى وصل إلى معايير الجودة لكل شيء، ثم تنافس في التحسين المستمر لمعايير هذه الجودة، ففجر في عقله قنابل الإبداع ليدمر بها صخور التحديات، ويفتح فضاءات ومسارات غير مسبوقة؟
وفي رحلة البحث عن السعادة والأمن والاستقرار، أجاب على سؤال الإتقان في تحسين سلوكه الشخصي والبيني والمجتمع، وتطور إلى صناعة نماذج سلوكية واجتماعية لإدارة تنوع وعلاقات البشر.
وفي المؤسسة والمصنع، اجتهد في امتلاك الميزات التنافسية وتحقيق أعلى العوائد الاستثمارية، فأجاب على سؤال الإتقان بالتحسين المستمر لمستوى الأداء المهني، ثم انطلق ليصمم أدلة السلوك المهني لكل مجال عمل، وكل مؤسسة، وكل وحدة تنظيمية، وكل وظيفة، ممسكا بوسائل وأدوات التحسين المستمر لجودة وحوكمة كل شيء من مفردات منظومة الإنتاج.
في المقابل، تعاني المجتمعات العربية تشوها ذهنيا ونفسيا وأخلاقيا، وتخلفا حضارياعميقا دائم الانحدار
والسؤال هو: أين مكمن المشكلة؟ هل هو في القيم ذاتها؟ أم للعربي وتركيبيته الجينية؟ وفي نظرته واستخدامه للقيم؟ أم في العالم المحيط بنا؟
البعض يختزل القيم في باب السلوك والأخلاق المعنية ببناء وضبط وتقويم السلوك البشرى فقط، كما يختزل السلوك البشري في جانب معاملات الفرد مع ربه ونفسه وعالمه المحيط به، من البشر والنبات والحيوان والجماد. وذلك في ذاته يعد اختزالا كبيرا لمفهوم القيم ودورها الوظيفي في الحياة.
وأرى أن تقسيم الإسلام إلى علوم وفروع وأبواب وعقائد وعبادات وآداب ومعاملات وفقه وتشريعات، على ما حققه من أهداف تعليمية، إلا أن له دورا كبيرا لأمرين:
الأول: هو التقسيم والفصل بين كل مكون من المكونات الأربعة.
الثاني: اختزال القيم ضمن باب المعاملات.
ومما سيطر خطأ على العقل المسلم بعد التفكيك؛ هو ترتيب أبواب الإسلام الأربعة، بحيث تكون الأولوية لباب الاعتقاد، ثم باب العبادات، ثم الفقه والتشريعات، ثم تأتي في النهاية الآداب والمعاملات، من باب تلتحسين والتجميل والبحث عن الالتزام النسبي.. ومن ثم أصبحت القيم والأخلاق والسلوك من باب التحسينيات التي يمكن أن يعيش المسلم بحد أدنى منها حيث انها ليست المتحكم الأساسي في فهمه وفعله في الحياةـ ما دام اعتقاده صحيحا وقويا. هذا بالإضافة إلى العديد من الأسباب الإضافية المتعلقة بضعف منظومة التربية بداية من جمود وتقادم المنهج المحتوى التعليمي البنائي العملي الحضاري المعاصر، إلى ضعف مستوى المعلم ووسائل وأدوات التربية المستخدمة، انتهاء بغياب البيئة النوعية التربوية اللازمة كمحضن راعٍ لعملية التربية.
ولذلك، وصلنا إلى مجتمعات تدعي صحة وقوة العقيدة، وتتمسك بالشعائر التعبدية بشكل كبير، ولا حصة فيها من القيم والأخلاق والسلوك إلا القليل، كما فوجئنا بالصدمة الحضارية. والحقيقة الواقعة أننا أمام نموذج للمسلم الجديد، منزوع القيمة والقدرة والفاعلية حيث هو:
- الأضعف تفكيرا وفكرا وابتكارا على مستوى العالم.
- الأسوأ إنتاجا كمّا وكيفا على مستوى العالم.
- الأكثر استهلاكا على مستوى العالم.
- الأكثر تسيبا وعشوائية على مستوى العالم.
- الأكثر إجراما على مستوى العالم.
- الأقل أمنا على مستوى العالم.
- الأسوأ تعايشا وسلما وأمنا اجتماعيا على مستوى العالم.
- الأكثر أزمات ومشاكل على مستوى العالم.
فالمدعي لتدين ولا فاعلية له في الحياة؛ عيش كفرد متدين مزيف لا قيمة له في مجتمعه، ولا مؤسسته ولا مجال تخصصه، ولا عالمه الكوني الذي يعيش فيه عالة عليه، ومن ثم هو يعيش على هامش الحياة الدنيا، إن لم يكن عالة عليها، أو ربما كان عدم وجوده أفضل من وجوده، والمختلف شكلا ومضمونا عن النماذج البشرية الحضارية التي ينشدها القرآن الكريم وقدمها الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام.
في هذا السياق، فإن الإجابة الواضحة لسؤال صحة وجدية وجدوى التدين الحالي؛ أنه تدين مزيف وغير حقيقي؛ لأنه بكل بساطة فشل في إنتاج النموذج الصالح في ذاته المفيد للإنسانية من حوله، المساهم الحضاري بحصة كبيرة في عمارة الكون.
على الضفة الأخرى من العالم، نجد مجتمعات اكتفت من الدين بحصة القيم، ونجحت من خلالها في إنتاج الإنسان والمجتمع والدولة الحضارية القوية.
إذن، هناك أزمتان، الأولى في فهم الدين ورسالته في الحياة، والثانية في فهم القيم ورسالتها الحضارية في بناء وإنتاج الإنسان الحضاري، الصالح في ذاته، المفيد للإنسانية، والمساهم الحضاري الفاعل في تطوير الحياة على الكوكب.
ما يعنينا هنا حين نناقش القيم، هو أن أزمة فهم الدين هي أساس لأزمة القيم، ولعلاج أزمة القيم لا بد من استعادة الفهم الصحيح للدين والتدين، مع استكمال بقية أوجه العلاج اللازمة لأزمة القيم.
حقيقة الأمر هي أن حقيقة ومكانة القيم في الدين، والتصديق والإيمان والتدين، واضحة وبينة ومرتبطة ببعضها البعض، ولنأخذ مثالا من سورة الماعون: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ".
- السورة تقدم قيمة اجتماعية كبرى، وتربطها ربطا وثيقا ومباشرا بقضية الإيمان بالله تعالى.
- يتحدث القرآن عن قضية التكذيب والتصديق والإيمان بالرسول والرسالة، فيكشف بشكل واضح عن ست ممارسات سلوكية يتصف بها المكذبون؛ هي على الترتيب: إهمال اليتيم، وعدم الحض على إطعام المسكين، والسهو عن الصلاة، والرياء، ومنع الماعون.
جميعها تعبر عن غياب قيم اجتماعية كبرى بشكل كلي أو جزئي، منها غياب قيمة إكرام اليتيم، والإيجابية والمسؤولية المجتمعية، وإقامة الصلاة والخشوع في الصلاة، والإخلاص والتعاون والمؤسسية وبذل الخير للناس، ويلاحظ في الآيات الربط المباشر بين التكذيب وهذه الممارسات السلوكية.
دعنا نرجع إلى الهدف من السورة، لنكتشف حقيقة المنهج القرآني في تعليم وبناء وتمكين الدين في النفوس.
الله تعالى استخدم منهاج البيان للناس بأن من يمارس هذه السلوكيات يعد مكذبا بالدين،
وهذا التكذيب تكذيب جزئي لا كلي، حيث أن منهم المصلي، ولكنه يسهو عن صلاته.. وذلك التكذيب لأنه لم يفهم ولم يلتزم بواجبات الإسلام الإنسانية والاجتماعية تجاه أبناء مجتمعه المحيطين به، كما أنه إنسان فردي وعضو سلبي في المجتمع؛ لا يتحمل مسؤوليته في حل مشاكل المجتمع وتحسين جودة الحياة فيه.
والله تعالى في ذلك يوجههم بشكل غير مباشر للانتباه إلى هذه الواجبات وسرعة تصويب هذه السلوكيات؛ حتى يستكملوا تصديقهم وإيمانهم، بما يبين لنا حقيقة أن السلوك البشري جزء من تصديق وإيمان واعتقاد الإنسان، وعندما ينفك هذا الجزء ينتقص الإيمان، بمعنى أنه لا تصديق ولا إيمان بلا ممارسات سلوكية وأخلاقية وقيمية صحيحة.
وبالبحث في حقيقة وفاعلية هذه الممارسات السلوكية، نجد أنها تمثل الأساس البنيوي للنظام الاجتماعي الذي ينشده الإسلام.
ويبقى سؤالنا الأساس هنا عن حقيقة القيم، ومدى فاعلية في بناء الإنسان وتعزيز ممكناته على الفعل الحضاري. ولذلك نطرح هذا السؤال: ما هو الأثر البنائي في شخصية وقيمة الإنسان كإنسان؛ من إنسان سلبي إلى إنسان إيجابي، ومن إنسان فردي إلى إنسان جماعي ومؤسسي... إلخ؟ ومن مجتمع مأزوم اجتماعيا ومليء بالمشاكل والأزمات النفسية والاقتصادية والأخلاقية القابلة للتعقد والتوسع، إلى أشكال من الجرائم... إلخ؟
وهنا تكشف القيم لنا عن قوتها وفاعليتها:
عندما يتوجه الإنسان إلى الاهتمام باليتيم ورعايته كما أنه عندما لا يمتلك ما يطعم به الفقير والمسكين سيتوجه إلى الأغنياء والتعاون معهم في تحقيق ذلك، كما أنه عندما ينتبه لإقامة صلاته على النحو اللازم، لا شك أنه سيقوم بعدة ممارسات تحقق له العديد من الاستفادات الكبيرة جدا له هو ذاته، ولبناء وتطوير قدراته الذاتية، ولقيمته المضافة كإنسان فاعل في المجتمع، له ممكنات فردية يمكن أن تتطور باستمرار وممكنات جماعية يمكن أن تتشكل وتنمو بشك كبير ولنحصي سبعة منها.
الاستفادات الذاتية المتحققة للفرد، عندما يحسن سلوكه واخلاقه ويتمسك بالقيم:
أولا: فتح فضاءات جديد للتفكير تتجاوز حدود فضائه المكاني والزماني الذي يعيش فيه؛ إلى فضاءات الكون الواسعة من حوله في عالم الشهادة، ثم من الكوكب الأرضي الصغير المحدود الذي نعيش فيه؛ إلى الفضاء الواسع الذى تسبح فيه الأرض، ومن هذا الفضاء إلى ما هو أكبر ومطلق في عالم الغيبـ بما يدرب العقل ويؤهله لإمكانية فتح فضاءات متتالية ومتعددة الاتجاهات وغير تقليدية ومتجددة للتفكير، تساعده في مواجهة تحدياته وترفع من سقف تطلعاته وطموحه.
ثانيا: الرفع المستمر لمستوى التفكير والفهم والطموح.
ثالثا: المراقبة المستمرة للسلوك الذاتي وتقويمه وتحسينه باستمرار.
رابعا: التحسين المستمر لمستوى العلاقات البينية بين افراد الاسرة والعاملين بالمؤسسة وأعضاء النادي والمجتمع عامة... الخ، بما يقلل من المشاكل والجرائم، ويرفع منسوب الأمن المجتمعي المعزز للاستثمار والتنمية وجودة الحياة بشكل عام.
خامسا: ارتفاع منسوب الاهتمام بالشأن العام، وكيفية إدارة التنوع، وتعزيز سبل الاستقرار الثقافي والاجتماعي والسياسي.
سادسا: الطموح والمنافسة والاستجابة الإيجابية لتحديات الواقع، والتحسين المستمر لمستوى الأداء والإنجاز المهني، بما يعزز قدرته التنافسية.
سابعا: نمو القيمة الذاتية المضافة للإنسان، وخاصة وعيه بذاته الإنسانية ودوره الحضاري، والتزام المجتمع بالقيم الحضارية الكبرى (الحرية والعدالة والمساواة والمواطنة الكاملة وتكافؤ الفرص)، والتي تشكل في مجملها قاعدة الانطلاق الحضاري للمجتمع.
بهذه الاستفادات السبع للقيم، يتبين لنا البعد الحضاري الكبير للقيم في بناء الإنسان والمواطن العالمي الأساس لبناء المجتمع الحضاري القابل للعبور إلى القرن 21.
وأحوصل وأوجز ما ذهبت إليه في هذا الجزء؛ بأن القيم ليست كما يتصور البعض، مجرد أساس ومصدر لتحسين السلوك وتجميل الإنسان، إنما هي الأساس لبناء وتشكيل هوية الإنسان الحضارية، وبناء وتعزيز ممكناته الحضارية على الفعل والإنجاز، والاستمرار في تطوير عمارة الكون.
نقطة البدء هي القيم، وغاية الوصول هي عمارة الكون بالقيم وتقنيات الحياة الحديثة لرفاهية وامن الإنسان على الكوكب الأرضي، وفي الآخرة لمن أراد.
كما أننا نعاني أيضا من مشاكل بنيوية كبيرة في مجال صناعة القيم والهوية، وتربية وإدارة المجتمعات والشعوب على الترتيب:
أولا: عدم وجود بناء مفاهيم حضاري معاصر متفق عليه للقيم.
ثانيا: عدم وجود موسوعة للقيم الحضارية المعاصرة بشكل رأسي لكل قيمة على حدة؛ تبني مفهومها وعلاقتها وتطبيقاتها في مجالات الحياة المختلفة ومعايير ومؤشرات قياسها.
ثالثا: عدم وجود أدلة سلوكية للقيم للشرائح العمرية المختلفة والمهنية المتنوعة للتربية والتدريب عليها، وقياس نموها وآثارها على تحضر وإنجاز المجتمع.
رابعا: عدم وجود نظام معياري لتصنيف وتنظيم القيم، وتصميم مصفوفات القيم اللازمة للإنتاج والإدارة المجتمعية المهدفة.
خامسا: عدم وجود تفسير قيمي للمصدر الأول في الإسلام القرآن الكريم؛ يكشف حقيقة النظام القيمي في القرآن الكريم وتطبيقاته في مجالات الحياة ومحطات التاريخ والواقع والمستقبل.
سادسا: لا نمتلك معهدا أو اكاديمية أو كلية أو جامعة متخصصة في علوم القيم والهوية وصناعة الإنسان والمجتمع.. وللحديث حولها بالتفصيل بقية إن شاء الله.
كل ذلك ترك مساحة فراغ شاغرة لتمدد ونمو وإنتاج القيم مزيفة ومعلبة داخل علب دينية مغشوشة.