تختلف المقاربات وتتباين في تشخيص الراهن العربي وفي فهم المآلات التي آل إليها اليوم، لكنها تتفق في التأكيد على أن المنطقة تعرف واحدة من أخطر أطورها التاريخية المعاصرة. هذا الراهن يتمحور حول ارتداد ثورات الربيع وما آلت إليه من فوضى وتناحر وحروب حولت ربيع الثورات إلى مسرح مفتوح للفوضى والاقتتال.
لكن البحث في أسباب هذا الانهيار الكبير طرح على أهل الاختصاص منزلة الفواعل والعوامل التي أدت إليه أو ساهمت في نشأته. فذهب فريق إلى تحميل الفواعل الداخلية الجزء الأكبر من مسؤولية الانهيار العربي الكبير في حين رجح فريق آخر دور العوامل الخارجية المتحكمة في المنطقة مسؤولية فشل ثورات الربيع وعجزها عن تحقيق الشعارات والأهداف التي من أجلها خرجت الجماهير مطالبة بالتغيير. لكن من جهة ثالثة يبدو أن القراءة الأقرب إلى الموضوعية التحليلية هي تلك التي تجمع بين الفاعلين الداخلي والخارجي في صياغة المشهد العربي الذي نراه اليوم. بل إن تداخل الفاعلين هو القادر أكثر من غيره على تقديم إجابات مقنعة عن الراهن العربي.
الفاعل الخارجي
ليس الفاعل الخارجي مكوّنا واحدا متناسقا أو متجانسا بل هو كما يدل اسمه عليه متعدد بتعدد مصادره. فالخارج بالنسبة للمنطقة العربية يعرّف بالسلب، أي كل ما ليس داخليا فهو خارجي، كما ينقسم الخارج بدوره إلى خارج إقليمي وخارج دولي وحتى إلى خارج محلي، إذا اعتبرنا حدود الدول والكيانات السياسية، حيث يمثل اليمن بالنسبة للعراق مثلا خارجا جغرافيا وسياسيا رغم اندراجهما في نفس بنية الانتماء العربي والإسلامي.
إقرأ أيضا: وزن العوامل الخارجية في ثورات الربيع
من جهة أخرى يتعدد الخارج بتعدد السياقات التي يحدث فيها فعله وكذلك مرجعية هذا الفعل، فهناك الفاعل الاقتصادي والسياسي والثقافي والإعلامي وكذلك الفاعل العسكري أو المسلح. هذا الفصل هو فصل منهجي فحسب لأن عمل هذه الفواعل لا يكاد ينفصل عن بعضه البعض، حيث يشكل بنية واحدة رغم اختلاف أوجهها.
لا بد من الإشارة كذلك إلى تاريخية الفاعل الخارجي في المنطقة العربية باعتبار ما يختص به حضوره في البلاد العربية من خصائص تختلف عن حضوره في أماكن أخرى من العالم. بل يمكن القول دون مبالغة إن المشهد العربي الحالي في شكله الجغراسياسي والاقتصادي إنما هو حصيلة لفعل استعماري كان حاضرا بقوة في المنطقة العربية مشرقا ومغربا منذ القرن الماضي وحتى قبله. لقد رسمت القوى الاستعمارية التي كانت تحكم العالم العربي المشهد السياسي في أدق تفاصيله كما رسمت طبيعة السلطة السياسية الحاكمة سواء في شكلها الوراثي أو الجمهوري العسكري بحسب مصالحها ونفوذها قبل كل اعتبار. بناء عليه هل يمكن الحديث فعلا عن العوامل الخارجية باعتبارها خارجية مطلقة أم الحديث عن تجدد حضور الفواعل الخارجية التي لم تغادر سواء عبر وكلائها أو عبر ثقافتها أو عبر مصالحها المختلفة؟
الفاعل المسلح
يمثل الفاعل المسلح أو الفاعل العسكري أهم وأخطر الفواعل تأثيرا في المشهد العربي بالأمس وكذلك اليوم. لقد تم استعمار البلاد العربية واحتلالها لمدة طويلة بواسطة القوة العسكرية المسلحة أولا، أي أنّ وضع اليد على المنطقة كان دائما عبر البوابة العسكرية سواء في صورة احتلال مباشر أو احتلال مقنع بقناع الوصاية أو الحماية أو التدخل الإنساني أو حتى تحت غطاء نشر الحضارة والتمدن ـ ما يسمى اليوم ديمقراطية. الفاعل المسلح إذن هو أهم الفواعل الخارجية وهو الذي يؤسس لحركة بقية الفواعل ولفعلها وخاصة منها الاقتصادية والسياسية.
إقرأ أيضا: الاقتتال والفوضى: زرع الثورة أم نبت قوى الاستبداد؟
من ناحية أخرى لا يقتصر الفعل الخارجي المسلح على الغزو الأوّلي المؤسِّس لبقية المشاريع الاستيطانية التي تهدف إلى مصادرة السيادة ونهب الثروات واستعباد السكان الأصليين أصحاب الأرض. بل يحضر هذا الفعل بشكل مباشر في مظاهر أخرى من أجل منع استقلال البلد المستعمر سواء كان هذا الاستعمار مباشرا أو عبر وكلاء محليين كما هو الحال في أغلب الدول العربية تقريبا.
لا يقتصر منع الاستقلال على القمع الذي جوبهت به حركات التحرر الوطني في الدول المستعمرة مثل الثورة الجزائرية أو حرب التحرير في ليبيا أو في العراق أو في أغلب البلدان التي وقعت تحت براثن الاستعمار، بل يظهر كذلك عند ظهور مؤشرات التغيير السياسي في هذه البلدان بشكل قد يتعارض مع مشاريع الدولة الاستعمارية أو يهدد بزوال مصالحها في الدولة المستعمَرة.
تجدد الحضور الاستعماري
لا بد من التأكيد على ملاحظة جوهرية في هذا السياق وهي تتمثل في أن أغلب الدول المستعمَرة قد أعلنت استقلالها وصارت عضوا في الأمم المتحدة، وهو ما يعني أنها صارت دولا ذات سيادة على أرضها وثرواتها. لكن ما حدث بعد سنوات ما سمّي "استقلالا" أثبت أن الاستقلال المزعوم لم يكن في الحقيقة إلا تغيرا في صورة الاستعمار الذي تحول إلى شكل من الوصاية المقنّعة التي غاب عنها فقط الحضور العسكري المباشر. بناء عليه لا يمكن للجيوش الأجنبية التواجد أو التدخل بشكل علني مباشر في الدول الواقعة تحت وصايتها خاصة بالنسبة للإمبراطوريات الاستعمارية القديمة بعد صعود القوتين الكبيرتين إثر الحرب العالمية الثانية.
تمت تصفية الاستعمار القديم وإعادة تقاسم النفوذ والثروة في المستعمرات القديمة وكانت بداية القواعد العسكرية في مناطق النفوذ المتنازع عليها وخاصة في الدول المنهزمة إثر الحرب الكبرى. لكن بعد انهيار المعسكر الاشتراكي في بداية التسعينيات ثم إعلان الحرب على الإرهاب تغيرت قواعد التدخل العسكري رغم كل الالتزامات الدولية والقوانين الأممية الواضحة في هذا الغرض. كان غزو العراق المنعرج الذي غير قواعد اللعبة عندما سعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى تحقيق قدر أقصى من الاختراق والحضور في المنطقة مستفيدة من انهيار الاتحاد السوفياتي واستعادة أوروبا لكثير من الجمهوريات السوفياتية السابقة.
إقرأ أيضا: انعكاسات "الثورة المضادة" على القضية الفلسطينية
لكن هذا الحضور الجديد لم يكن ليتم دون اللجوء إلى القوة العسكرية غير النظامية والتي تتجلى في الجيوش الخاصة أو الشركات الأمنية أو المرتزقة بشكل عام. هذا الحضور العسكري غير النظامي هو الذي يسمح للدولة المستعمرة بهامش واسع من الحركة خاصة في ما يتعلق بالعمليات القذرة مثل الاغتيالات والإشراف على مراكز التعذيب وغيرها من العمليات التي رأيناها في العراق في سجن أبو غريب مثلا.
يعود التحالف القديم بين وكلاء الداخل العربي والقوى الاستعمارية الخارجية من أجل مزيد إغراق المنطقة في الفوضى والانقسام والدماء