نقصد بـ"التلاعب بالدستور" عدم احترام شرعية أحكامه في التطبيق والممارسة، ويتحقق ذلك إما بخرق قواعده ومقتضياته عُنوةً، أو بسوء التفسير، أو باللجوء إلى التأويل غير الديمقراطي، كما يحصل الخرق باللجوء الإرادي إلى تعديل بعض أحكام الدستور لخدمة أغراض سياسية منافية لروح هذا الأخير، حتى وإن احتُرِمت الإجراءات الدستورية ذات العلاقة.
يصعُب جدا التلاعب بالدستور في النظم الديمقراطية، لأسباب موضوعية، أبرزها أن الدستور تعبير عن التعاقد السياسي والاجتماعي الحاصل بين الحكام والمحكومين، وكل إخلال بأحكامه يُعدّ بالضرورة مَساساً بروح التعاقد الاجتماعي، وانتهاكاً للإرادة العامة مصدر الدستور ذاته. قد تتكوّن أعراف على هامش الدستور المكتوب، أو ممارسات دستورية إلى جانب الدستور العرفي، من شأنها توسيع أو تضييق مضامين أحكام الدستور، غير أنها تبقى رهينة توافقات السلطات الدستورية، وتحت أعين القضاء، وتحديدا القضاء الدستوري. لذلك، تنبذ الثقافة السياسية السائدة في النظم الديمقراطية آفة التلاعب بالدستور، ويظل المواطنون حريصين على الدستور، بحسبها الوثيقة الأسمى، المجسدَة لإرادتهم الحرة والمستقلة في تقرير مصيرهم.
تنبذ الثقافة السياسية السائدة في النظم الديمقراطية آفة التلاعب بالدستور، ويظل المواطنون حريصين على الدستور، بحسبها الوثيقة الأسمى، المجسدَة لإرادتهم الحرة والمستقلة في تقرير مصيرهم
وبمفهوم المخالفة ظلت الدساتير في النظم السياسية غير الديمقراطية عُرضة للتلاعب، والاغتصاب، وسوء الاحترام في التطبيق والممارسة. نشدد على هذا ونحن نرى واقع الدساتير في البلاد العربية، حيث يتم التلاعب بها، وإن بدرجات مختلفة من دولة إلى أخرى، كلما تعلق الأمر بتوترات سياسية، أو منازعات مصلحية، أو تطلعات شخصية للحكام، أو مجموعات ضغط، أو فئات وازِنة في النسيج الاقتصادي والاجتماعي.
من أبرز مظاهر التلاعب بالدساتير في المجال العربي تنظيم الولايات الرئاسية في النظم غير الوراثية، المُعتمِدة لنظام الانتخاب. فالملاحظ على رؤسائها حين يتولون مهامهم الرئاسية، إما في أعقاب انقلابات أو انتخابات، يتعهدون باحترام الأحكام الدستورية المحدِّدَة لولاياتهم الرئاسية، وهي عموما لا تتعدى ولايتين متتاليتين، لكن ما أن يقترب انتهاء الولاية الثانية والأخيرة حتى يشرعون في إعداد المناخ إما لتغيير الأحكام الدستورية ذات العلاقة للسماح بالتمديد، أو تسويق مبررات "المصلحة الوطنية"، وضمان استمرار "الاستقرار والأمن"، أو محاربة الإرهاب والتطرق، أو استكمال "الانجازات الاقتصادية الكبرى". والقائمة طويلة من الاعتبارات "المشرعِنَة" لتعديل الدستور، وفي الواقع التلاعب بأحكامه.
لاحظنا حصول هذه الظاهرة في تونس على عهد "زين العابدين بن علي"، حيث عدّل الدستور عُنوة لضمان استمراره، والأمر نفسه في الجزائر على عهد الرئيس الحالي، الذي أعلِن عبر رسالة ترشحه لعُهدة خامسة، ويحصل الآن في
مصر، حيث
سيُعبّد التعديل الجديد الطريق للرئيس إلى غاية 2034. ويتذكر القراء الكرام السرعة القياسية التي تم خلالها انتقال السلطة في سوريا في أعقاب وفاة حافظ الأسد، أما في نظم أحرى فظلت ولايات الرؤساء تتجدد لعقود، كما هو حال السودان، واليمن، وليبيا، بل إن بعضهم كان يطمح ويطمع في توريث سلطته لفروعه، تيمناً بالنظم الوراثية.
تعكس ظاهرة التلاعب بالدساتير أزمة عميقة في البنيان السياسي والثقافي العربي، وتدُلّ على وجود فجوة عميقة في العلاقة بين المجتمعين السياسي والمدني، وبين الحكام والمحكومين
تعكس ظاهرة التلاعب بالدساتير أزمة عميقة في البنيان السياسي والثقافي العربي، وتدُلّ على وجود فجوة عميقة في العلاقة بين المجتمعين السياسي والمدني، وبين الحكام والمحكومين، كما تؤشر إلى الصعوبات المُعيقة لفرص الانتقال إلى الديمقراطية في هذه البلدان. فمن المعروف أن من المقومات الأساسية واللازمة للانتقال من وضع غير ديمقراطي إلى وضع ديمقراطي، تكريس مبدأ التناوب على السلطة عبر آلية الانتخاب الحر والإرادي والشفاف، واحترام النتائج المحصّل عليها عبرها وعلى أساسها. ثم إن الدستور، بوصفه تعاقدا سياسيا واجتماعيا، يظل الوثيقة الأسمى في البلاد، والمعيار الأساس لقياس درجة دَمقرَطَة المؤسسات والثقافة السياسية.
من اللافت للانتباه في الحالة العربية أن على الرغم من التوزيع غير المتوازن والمُختلّ لصالح السلطة التنفيذية، وتحديدا الرؤساء، فإن اللجوء إلى الإجهاز على السلطة المتبقية للمؤسسات الأخرى، من تشريع وقضاء، ظل مستمرا بشكل منتظم، وغالبا ما يقع توظيف البرلمان والقضاء لتأكيد سلطات مؤسسات
الرئاسة وتنفيذ إرادتها، وهو ما أفضى بالنتيجة إلى نوع من التكوّر لمؤسسات الرئاسة حول ذاتها، وحجب كل الأضواء الصادرة، أو الممكن صدورها من المؤسسات الدستورية الأخرى، وأيضا التفاعلات الآتية من المجتمعات المدنية.
تحتاج عملية القضاء على ظاهرة التلاعب بالدساتير إلى خطوات شجاعة وجريئة من قبل الدولة والمجتمع معاً، تبدأ بإقامة حوار عمومي واسع ومسؤول وعميق حول الوثيقة الدستورية نفسها
لقد تمّ التعويل على رياح ما سمي "الربيع العربي" في أن تُحدث تغييرات عميقة في هذه النمط من الحكم الذي ساد البلاد العربية وتحكّم في تفاصيل حياتها السياسية، كما كان الرهان كبيرا على تكريس التغييرات المنتظرة في الوثائق الدستورية الجديدة، غير أن هذا لم يتحقق، وإن بدرجات مختلفة، بحجم التطلعات التي واكبته، سواء في مصر أو الأردن أو المغرب، باستثناء الحالة التونسية التي صاغت دستورا جديدا بفلسفة دستورية جديدة، دون أن تقطع جذريا مع روح الدستور التأسيسي لعام 1959.
تحتاج عملية القضاء على ظاهرة التلاعب بالدساتير إلى خطوات شجاعة وجريئة من قبل الدولة والمجتمع معاً، تبدأ
بإقامة حوار عمومي واسع ومسؤول وعميق حول الوثيقة الدستورية نفسها، أي حول فلسفتها ومضامين قواعدها وأحكامها، وتتعزز بإرادة حرة ومستقلة في التوافق على هذه الوثيقة واعتبارها تعاقدا ملزما لا رجعة فيه، وتنتهي بتكريس تطبيق سليم لها، أي احترام دائم ومستمر لشرعية أحكامها.. وكل هذا طبعا لن يحقق مقاصده وأبعاده، دون بلورة إرادة استنهاض الدولة والمجتمع في ميادين الاقتصاد، والثقافة والفكر، وسياسة بناء الإنسان والاستثمار الأمثل في قدراته.