لا تختلف الثقافتان المسيحية والإسلامية عن بعضهما فيما يتعلق بمسألة الطاعة السياسية، فكلاهما تنطلق من مقدمات متشابهة وإن اختلفتا في النتائج السياسية ـ الثقافية.
في كلا التجربتين جرى تقديم السياسة المثالية على مذبح السياسة الضرورية، أو تساوقت السياستان معا، كما حدث في الثقافة المسيحية الرومانية التي زاوجت بين سمو الجماعة وسمو السلطة، وكما حدث في الإسلام ما بعد الخلافة الراشدة، عبر جعل نظام الضرورة يتواجد مع نظام الشرعية.
أحكام دينية تمنع العصيان للحاكم
ومع أن الديانتين تخلوان من الأحكام القطعية في مسألة الطاعة والعصيان للملوك أو الأمراء، فإن رجال الدين في الحالتين شرعوا أحكاما دينية تمنع العصيان بسبب ما تنتجه من فتن، والفرق بينهما يكمن في أن الثقافة الأوروبية المسيحية شهدت جدالا واسعا حيال هذه المسألة خصوصا في مرحلة الإصلاح الديني، بينما بقيت الثقافة الإسلامية في حالة ستاتيكو حيال هذه القضية، باستثناء حالات محددة لم تؤد إلى نشوء نظريات حديثة تقطع مع السائد.
أعلن القديس بولس أن قتال الإنسان لرؤسائه معادل لمقاومة الإنسان لله، ثم جاء القديس أوغسطين ليؤكد الأمر ذاته قبل الأكويني الذي أكد أن سلطة الحاكم فوق سلطة الشعب.
ومع البابا غريغوار الكبير ستحدث خطوة أخرى في تعزيز الطاعة السياسية، بإعلانه واجب الرعية الديني طاعة الأمراء حتى وإن كانوا يستحقون اللوم.
اقرأ أيضا: هل يحتاج الإصلاح الديني لـ"مارتن لوثر إسلامي"؟
ظلت هذه الأفكار سائدة مع مطلع الإصلاح الديني، وتحديدا مع مارتن لوثر الذي ظل أمينا لإرث القديس بولس، فقد اعتبر لوثر أن جميع تشريعات السلطة الزمنية هي نعمة مباشرة من الله وتعبيرا عن العناية الإلهية حتى وإن كان الأمراء طغاة.
والسبب في هذا الموقف يكمن في مفهوم عبودية الإنسان للخطيئة، الذي أسس عنده رؤية جبرية بين الله والإنسان، فأوامر الله يجب أن تطاع لأنها أوامره وليست لأنها أوامر عادلة، ولهذا وقف موقفا مضادا من ثورة الفلاحين عام 1524.
خطاب لوثر وأثره
لعبت نظريات اللوثريين الأوائل دورا حيويا في شرعنة الملكيات المطلقة الناشئة، فبفضل رفضهم الرأي الكاثوليكي التقليدي بأنه يمكن الحكم على الحاكم الطاغية وعزله بواسطة سلطة الكنيسة من جهة، وبأن جميع السلطات الموجودة يجب أن تعتبر هبة مباشرة من الله من جهة ثانية، أصبح الحكام الطغاة يحكمون عن طريق الحق الإلهي.
لكن في عام 1530 حدث تحول في فكر لوثر وميلانكثون وأتباعهم، فقد اعتقدوا أن أي حاكم طاغية يمكن معارضته قانونيا وبالقوة، ومع ذلك لم يكن هذا الرأي حاسما ولم يتسيد خطاب لوثر، لكن سيكون له تأثير في ما بعد مع إحياء النظريات الراديكالية على يد نيكولاس ستورش وتوماس دركسل وماركوس ستنبر وأتباع كالفن.
إدراك السياسي خارج الإطار الشرعي جاء نتيجة أن الثقافة الإسلامية تنكر تفويض سلطة الله للإنسان، فالأمر الذي يمارس على الأرض لا يمكن أن يكون سوى فعل الأمر الواقع.
فكرة العقد التوراتية
وبلغت عملية إعادة إحياء النظريات السياسية الوسيطة ـ الالتزامات التعاقدية بين الملك والجماعة وسمو القانون ذروتها عقب مذبحة سان برتليمي عام 1572 التي دفعت الكالفينيين إلى تبني رؤية راديكالية في السياسة.
هنا جرت عودة كالفينية إلى فكرة العقد التوراتية التي تجعل الطاعة رهنا بقيام الملك بواجباته.
وهكذا كانت عملية إدخال العناصر الدينية والدنيوية الدستورية في شرعنة العصيان أحد مقدمات الحداثة الأوروبية، وهو ما يختلف تماما عن نظام الضرورة في الإسلام، فاللوثرية بتنوعاتها تعترف بوجود مدى زمني حتى وإن كان غير شرعي نتيجة الخطيئة، وهذا المجال الزمني انتهى بتأكيد السيادة الشعبية، أولا لدى الهيغونيين المتأخرين، وتاليا لدى فلاسفة القرن الـ 17.
السياسة آلة لا غير
يذهب نبيل فازيو إلى أن فقهاء الإسلام فضلوا النظر إلى السياسة باعتبارها آلة لا غير، أي وسيلة لتحقيق أغراض أسمى، ولذلك عارض الفقهاء الخروج على الحاكم وقبول ولاية التغلب كأمر واقعي على الرغم من عدم مراعاتها لأحكام الشرع.
يقول أبو بكر الطرطوشي: إن الطاعة أهم واجبات الرعية نحو حاكمها، فهي ترتفع إلى مستوى الفرض أو الواجب، فطاعة السلطان مقرونة بطاعة الله تعالى".
الخشية من العصيان والفوضى، دفعت الفقهاء إلى تطوير نظرية للشرعية، تؤدي إلى إدراك السياسي خارج الإطار الشرعي
بخلاف الإسلام، لم يؤد اكتشاف الإرادة الإلهية في المسيحية إلى الخروج من المجال السياسي الذي بقي قائما يصنع هويته ويخضع لقوانين الطبيعة
كان اندلاع الثورات في العالم العربي تعبيرا ضمنيا عن قبول الكثير من الشعب العربي ومن النخب العلمانية والدينية بفكرة حق مقاومة الطغيان، لكن هذا التأييد بقي خارج خطاب سلطة المعرفة، أي لم يتم تأسيسه نظريا في الخطاب الديني والفكري ـ القانوني العلماني، فقد انجرت النخب الدينية والعلمانية وراء دعم الثورة من دون أية محاولة لتأسيس نظريات في المقاومة، وهذا هو السبب الذي جعل حركة الشارع تنفلت من عقالها، في وقت افتقرت فيه إلى أية رؤية سياسية بسبب الغياب التاريخي للتنظير الفلسفي ـ السياسي للمجال العام وحقوقه.
ومع ذلك، من المهم تسجيل نقطة هنا: وهي أن المنظومة الاجتماعية الحاملة للثورة كانت محافظة دينيا وقيميا، فقد جعلت للتدين دورا مهما في دفع الثورة، وفي تجاوب الناس مع أيديولوجيا دينية مضادة للطغيان.
لكن هذه الأيديولوجية الثورية التي لبست لباسا دينيا في شقها العسكري، أدت إلى تزعزع الإيمان الديني لدى كثير من الناس في مسألة العصيان، لاسيما عند أولئك الذين ظلوا في المجال المحايد، وبالتالي أدت إلى نشوء شرخ في البنى الاجتماعية المتنوعة.
اقرأ أيضا: الحكم لله والحاكمية للشعب
وفي مرحلة تزعزع الإيمان الديني، يجد الناس أنفسهم بين وضعين، إما حرية منفلتة خالية من أي محتوى فكري، أو رضوخ عبودي لنظام مستبد.
وهذا ما يمكن رؤيته بوضوح في التجربة السورية، فقد نجح النظام في أقناع قواعده بخطورة الثورات، وذهب خطوة إلى الأمام بصياغة خطاب ديني يستعيد الفقه السياسي السني التقليدي، فالتشديد على الإسلام من قبل المعارضة دفع النظام إلى تقديم نموذجه الخاص.
كاتب وإعلامي سوري
ماذا أرادت طهران من زيارة الأسد؟
رئاسة مصر.. ونصيحة أردوغان للإخوان
أحمد وهدان وإخوانه الشهداء بين ظلم القريب والبعيد!!