تنامى إلى أسماعنا بدايات خطاب استقطابي في الحراك السوداني، لن يكون بأي حال في مصلحة الثورة، ذلك أن بدايات الاستقطاب تكون في ساحات ومساحات خطاب منقسم، يتمكن من القلوب قبل أن يرد على الألسنة؛ خطاب يفتح الباب واسعا للتراشق لا التوافق، وللشجار لا الحوار. ويبدأ الكلام باستدعاء مساحات الاختلاف التي سرعان ما تتحول إلى حالة فرقة وتنازع، بدلا من حالة ضرورية من الالتحام والتماسك.. وتسود لغة الاتهام لا الرغبة في الالتئام، وتسود أجواء الخصام والانقسام، وننتقل سريعا إلى حال الفرقة وصناعة الكراهية، والتنابذ بالأيديولوجيات والمواقف المستدعاة من الذاكرة السوداء الجاهزة، وننسى أهداف الثورة الحقيقية، ونتفرغ لمعارك جانبية مصطنعة ومتوهمة؛ لن يكسب منها إلا هؤلاء الذين يضادون الثورة بمصالحهم وتحالفاتهم، فتصير حالة الاستقطاب فرصة ذهبية للثورة المضادة للالتفاف على الثورة وحصارها، كمقدمة للإجهاز عليها.
هكذا تكون أول خطايا مراحل الانتقال التي يمكن أن ترتكب من القوى المختلفة، على تعددها وتنوعها، بالانزلاق إلى بيئة يتمكن فيها فيروس الاستقطاب من الجميع، ليفعل بهم الأفاعيل، فيصنع مساحات فرقة تتزايد وتتراكم وتتسع؛ يتسرب منها الخصوم والمتربصون بالثورة وأهدافها، فتعيد تأهيلهم بعد أن انزووا أو انحنوا لريح الثورة التي هبت؛ فملكت من القوة والقدرة والتأثير الشيء الكثير.. فمع اتساع الشقة يتجرأون ويتجمعون، ليعيدوا الكرّة من جديد للنيل من الثورة وأهلها، والانحراف عن مطالبها وأهدافها. إن أصحاب القوى التي هددتها الثورة يتحينون الفرصة للالتفاف والإجهاز عليها، وقد واتتهم الفرصة يتسربون على طريق التمكن والسيطرة في مساحات الفرقة وساحات الاستقطاب، فاحذروا هذا الفيروس أن يتمكن منكم، فإن الثورة المضادة تسرح وتمرح في تلك المساحات وهذه الساحات.
المراحل الانتقالية هي مقبرة الثورات.. مقولة تصادف حالة من القابلية في الفرقة والاستقطاب، وتتمدد في مساحات الاختلاف والتنازع
يقولون (وبحق) إن المراحل الانتقالية هي مقبرة الثورات.. مقولة تصادف حالة من القابلية في الفرقة والاستقطاب، وتتمدد في مساحات الاختلاف والتنازع. إن مقولات استبعاد التيارات الإسلامية بالجملة؛ وبدون فرز، لمن هم مع الثورة وأهدافها ومن هو المضاد لها ولغاياتها، لهو أمر خطير يفرط في رصيد من الشباب الإسلامي الذي يؤمن بالثورة حركة ومسارا، غاية وأهدافا. وإن هؤلاء الذين يفتعلون المعارك ويدعون إلى حشود لنصرة الشريعة، متواكبة مع خطاب خطير يتهم ويفرق ولا يجمع؛ إنما تصب كل تلك المواقف في صناعة الحال التي نحذر منها، وننبه إلى آثارها السلبية والمميتة والقاتلة في حق الثورة وأهلها، وفي حق أهدافها ومستقبلها.. الخصم أنتم تعرفونه، والنضج والوعي أنتم صانعوه، فلا تتفرق بكم السبل، ولا تحقرن من التنازع شيئا، فإن ذلك مبتغاه الفرقة وخاتمته التشرذمة، ومآله التنازع وذهاب الريح.
فهذا العلم الذي يتعلق بأحوال الانتقال له أهمية بعد الثورات، ولا بد أن ترتكز الأفكار حول هذا العلم ومضمونه ومحتواه، والقدرة على ترجمته على أرض الواقع. وأول هذا العلم هو التعرف على شروط الانتقال، وتبصر الأحوال والممارسات التي تشكل قابليات للاستقطاب، وتنال من التوافق والتماسك. والحديث عن إدارة المرحلة الانتقالية بعد الثورات يتطلب ما يسمى "التفكير خارج الصندوق"، بمعنى أن تكون هناك أدوات ووسائل وآليات في مراحل الانتقال تشكل الوضع الاستثنائي؛ لأن المرحلة الانتقالية بحكم التعريف هي حالة استثنائية، ومن ثم فإنها تتطلب هذا التفكير الاستثنائي.
المرحلة الانتقالية بعد الثورات يتطلب ما يسمى "التفكير خارج الصندوق"، بمعنى أن تكون هناك أدوات ووسائل وآليات في مراحل الانتقال تشكل الوضع الاستثنائي
وفي المراحل الانتقالية تُسرَق الثورات، وتُركَب ويُلتَف حولها وتنتكس. فالمرحلة الانتقالية ليست مرحلة واصلة بين مرحلتين فحسب، أو مرحلة تسيير أعمال، كما أشاع المجلس العسكري بين الكافة، بل إن المرحلة الانتقالية هي انطلاقة إلى بناء جديد، وقدرة على تكوين تعاقد سياسي ومجتمعي جديد في إطار استراتيجية، وفي إطار انتقال وخطوات تدريجية متراكمة يمكن أن تُحدَث أثرا في عملية الإصلاح الجذري في المجتمع. إذن، لا بد أن تكون المراحل الانتقالية مراحل مخططة ومدبَرة، وتقوم على الوصل بين الاستراتيجي والمرحلي أو الخُططي.
الإجماع الوطني في حال الثورة هو أمر طبيعي، وسياسات التوافق وقدرة المجتمع على إدارة التعدد والاختلاف، فليس من الخطأ وجود تنوعات، ولكن الخطأ أن تتحول تلك التنوعات إلى تنازعات يستغلها صاحب السلطة، ليستمر في سلطانه وتحقيق مآربه وأهدافه، دون تحقيق أهداف الثورة. من العقبات أيضا بروز الاستقطاب الأيدولوجي والسياسي الحاد (صناعة الفرقة)، والتي تنتج عن أن عملية الانتقال لم تأتِ نتيجة تخطيط استراتيجي محدد، وإنما تم التعامل معها بالقطعة. ومن العقبات ما يتعلق بالقوى المضادة للثورة والمصالح والنظام الجديد، فالتحالفات الاجتماعية التي ارتبطت بالنظام السابق طوال ثلاثين عاما لا يمكن أن تنتهي بهذه السرعة وفق نظرية الدومينو، وإنما ذلك النظام عميق جدا وما زال ممتدا وموجودا بكثير جدا من تشكيلاته. ويظهر ذلك عندما يخف الزخم الشعبي، حيث تخرج قوى الثورة المضادة من جحورها. فالمرحلة الانتقالية بحكم التعريف هي تدافع كثيف لا بد وأن يحدث في مرحلة الثورة، فقوى الثورة المضادة موجودة في كل مكان.
التحالفات الاجتماعية التي ارتبطت بالنظام السابق طوال ثلاثين عاما لا يمكن أن تنتهي بهذه السرعة وفق نظرية الدومينو، وإنما ذلك النظام عميق جدا وما زال ممتدا وموجودا بكثير جدا من تشكيلاته
ليست هذه هي المرة الأولى التي أحذر فيها من شر الاستقطاب، ولا أدرى ما هي عدد المرات التي أُصدّر فيها مقالي بضرورات إدارة المرحلة الانتقالية، وخطورة هذه المرحلة التي ناديت مرارا وتكرارا أن يؤسس علم لإدارة هذه المراحل، خاصة فيما بعد قيام الثورات. ولا أدرى كم مرة ذكرت أن صناعة التوافق فن وعلم تتحقق فيهما عناصر الوعي الرشيد وقدرات السعي السديد، وأن معاني الصناعة تتطلب أصول فهم هذه الجماعة، في ثوبها الوطني وفي تشكيلاتها السياسية، وأن حركة الجماعة نحو جامعية حقيقية إنما هو مسلك يجب أن يكون محددا واضحا، جليا بيّنا، فاعلا ناجزا، تقوم أولى أبجدياتها على قاعدة من إدارة التعدد والتنوع والاختلاف أيا كانت تجليات هذا جميعا؛ لأن هذه الأمور إنما تكون بمثابة مختبرات وتجارب ضمن معامل تجريبية للوطن والمواطنة، تؤكد معناها وترسخ مبناها وتسدد مقاصدها ومبتغاها.
وظل الأمر يدور ضمن خماسية ظللت أدرسها، وأؤكد على عناصرها أسميتها "خماسية الاختلاف" تفعل فعلها في الثقافي والمجتمعي والسياسي على حد سواء، فهي أقرب إلى منظومة قيم لا يجوز التفريط بها أو الغفلة عنها أو إهمالها؛ لأن لذلك آثارا ومآلات على خريطة المجتمع وتكويناتها وحقيقة الثورة ومكتسباتها. الاختلاف سنة كونية ماضية، والتعدد حقيقة مجتمعية قائمة، والتعايش ضرورة حياتية حامية، والتعارف في الاجتماع عملية أساسية آمنة، والحوار آلية داعمة. وبذلك يتحقق في الاجتماع كل عناصر مرجعيته وشرعيته وجامعيته وتجدده ودافعيته، وفي النهاية تتوج أصول تأثيره ونهوضه وفاعليته.
درس الاستقطاب والتوافق لا يحتاج منا إلى تكرار، وهو يتعدى مرحلة الخيار، ويجب أن يرعاه كل قرار، ويشكل محددات المسار، لا نقع فيه تحت ضغط جني ثمار، أو افتعال شجار، إلا أن السياسة والاجتماع يقرران ذلك من كل طريق وبكل طريقة. وهو إن كان في كل زمان واجب، فإنه في مراحل الانتقال أوجب. فالاجتماع أرحب من أن نضيق فيه على نفوسنا، والعمل في هذا الطريق أوجب لا تماري فيه عقولنا.