كشفت المواجهة الأخيرة في
غزة، والتي امتدت على مدار ثلاثة أيام (3- 6 أيار/ مايو)، عن تطور التكتيكات الميدانية والعسكرية للمقاومة الفلسطينية.
ورغم أن هذه الموجة هي العاشرة من موجات التصعيد على مدار أكثر من عام، وتحديدا منذ انطلاق مسيرات العودة، إلا أنها تميزت عن سابقاتها لأسباب عديدة، أبرزها أن المقاومة باتت تتحكم بقواعد المواجهة، ولا تمنح هامشا واسعا للاحتلال للمناورة واستنزاف الجهة الداخلية الفلسطينية، خصوصا المتعلق بسلوك الاحتلال ضد المتظاهرين السلميين أيام الجمعة، حيث تكرر انتهاك تفاهمات التهدئة بالاستهداف الناري الممنهج من قبل قناصة الاحتلال للمتظاهرين بالقرب من السياج على حدود غزة، وهو ما دفع المقاومة الجمعة الماضية (3 أيار/ مايو) للرد على قنص عدد من المتظاهرين باستخدام نفس سلاح القناصة، مما أدى إلى إصابة ضابط ومجندة صهيونية.
الاحتلال كالعادة حاول تغيير قواعد الاشتباك، متجاهلا جريمته ضد المتظاهرين، وقرر الرد على قنص الجندي بقصف موقع لكتائب القسام، ما أدى إلى استشهاد مقاتلين. وهناك ظهرت أولى الاستخلاصات العسكرية من مواجهة الأيام الثلاثة، حينما أطلقت أجنحة المقاومة رشقات صاروخية يوم السبت، أصابت بدقة نقاطا محددة في المستوطنات المحاذية للقطاع، وبهذا فرضت المقاومة قواعد اشتباك جديدة، دفعت نتنياهو للصعود للشجرة، والاستمرار في التصعيد.
الملاحظة الثانية لتطور قدرات المقاومة العسكرية؛ تتمحور حول ضبط إيقاع القصف ومدياته من خلال غرفة العمليات المشتركة، وقد نجح سلاح المدفعية في
حماس والجهاد الإسلامي، بتحويل القصف الصاروخي إلى وسيلة تكتيكية للرد على جرائم الاحتلال وفق معادلة القصف بالقصف، وإن زدتم زدنا، فجرى إطلاق نحو 700 صاروخ من غزة، خلفت أربعة قتلى وعشرات الجرحى ودمارا كبيرا، في عسقلان وأشكول وعدد من مستوطنات غلاف غزة.
وتوسعت دائرة الاستهداف يوم الأحد، ردا على محاولات الاحتلال اعتماد عقيدة الضاحية باستهداف المباني السكنية الكبيرة. وكانت أبرز المدن المحتلة التي طالها القصف: أسدود وبئر السبع وكريات ملاخي، كما أبقت المقاومة العمق الصهيوني تحت التهديد عبر رسائل غير مباشرة، وبقيت الاستعدادات قائمة تحسبا لوصول صواريخ المقاومة إلى منطقة الشارون. كما قررت مدن كفار سافا ونتانيا فتح الملاجئ.
الملاحظة الثالثة تتعلق بدقة الصواريخ التي تمتلكها المقاومة، ونوعية الأهداف، حيث سقطت الصواريخ على مصانع كما في عسقلان، وبيوت بعض السياسيين مثل "آفي دختر"؛ الذي سقطت إحدى الصواريخ في فناء بيته، وجل الصواريخ كانت تسقط في مناطق مأهولة، مما أدى إلى إرتفاع واضح في عدد الخسائر بصفوف الاحتلال، وهذا له حسابته لدى المؤسسة العسكرية الاسرائيلية.
أما الملاحظة الرابعة، فتمثلت بالقوة التدميرية لصواريخ المقاومة، كما شاهدنا عبر بعض وسائل الإعلام العبرية ومنصات التواصل الاجتماعي التي نقلت صور المباني المدمرة، فيما كشف صحيفة يديعوت أحرنوت أن تقييم قوات الاحتلال يشير إلى أن حماس أطلقت صواريخ جديدة قصيرة المدى وثقيلة، يتراوح وزن الرأس الحربي فيها بين عشرات ومئات الكيلوجرامات، وأن أكبر وابل من الصواريخ كان ليلة الأحد، حيث أطلق 117 صاروخا في غضون ساعة فقط.
وشكلت الكثافة النارية الملاحظة الخامسة في تكتيكات المقاومة. ومثال ذلك، أن مجموع ما أطلقته المقاومة على الاحتلال خلال 24 ساعة في اليوم التالي للمواجهة يساوي حوالي أربعة أيام من حرب العصف المأكول 2014، التي استمرت 51 يوما، وهنا يظهر بوضوح إخفاق كبير لمنظومة القبة الحديدية، حيث كشف أبو عبيدة الناطق، باسم كتائب القسام، في منشور له على حسابه في تلغرام؛ أن كتائب القسام تمكنت في تجاوز ما يسمى بـ"القبة الحديدية" من خلال اعتماد تكتيك إطلاق عشرات الصواريخ في الرشقة الواحدة".
واعترف الرئيس السابق لقسم أبحاث الاستخبارات العسكرية
الإسرائيلية، يعقوب أميدرور، بفشل القبة الحديدة قائلا: "إذا تم إطلاق صاروخ على موقع يبعد أقل من بضعة كيلومترات، فليس لدينا ما يكفي من الوقت لاعتراضه، ولدى إسرائيل فجوة حرجة في نظام الحماية الخاص بها".
وفي تطور لافت، يمكن رصد ملاحظة سادسة لدخول وسائل تجريبية جديدة إلى ميدان المواجهة، حيث أشارت القناة "12" العبرية إلى أن حماس حاولت، باستخدام طائرة مسيرة، قصف مركبة مدرعة تابعة لقوات الاحتلال، لكنها أخطأت الهدف. ويعد هذا أول هجوم صاروخي جوي انطلاقا من غزة.
وفي إطار تنوع وسائل المقاومة، برع سلاح الدروع لدى المقاومة في استخدام صواريخ الكورنيت بالمواجهة البرية على حدود غزة، وهذه الملاحظة السابعة. فقد نجحت المقاومة في تحقيق إصابات مباشرة لمركبات عسكرية وتوثيقها بالتصوير، وقد اعترف الاحتلال بمقتل ضابط على الأقل، بينما كان القطار السريع في مرمى صواريخ المقاومة، في رسالة إضافية حول قدرة المقاومة في انتقاء أهدافها وتركيزها على العسكرية بالدرجة الأولى.
وفي آخر ملاحظات تطور قدرات المقاومة في الجولة الأخيرة، كشف قناة "12" العبرية أن وحدة السايبر في قوات الاحتلال تمكنت من إحباط عملية سايبر خططت لها حماس. وامتنعت الرقابة العسكرية عن نشر تفاصيل أخرى، لكن حسب مصادر في الاستخبارات، فإن هذه العملية كانت ستشل عمل مرافق حيوية، وبعض تفاصيل الحياة اليومية التي تعتمد على الحواسيب في الكيان.
انتهت جولة المواجهة التي أخذت شكل كل من التصعيد والحرب، وكان اللافت في نتائجها النقلة النوعية في قدرات المقاومة التي تمكنت من ضرب الاحتلال بشكل دقيق وإيقاع الخسائر به، بينما ما تخفيه المقاومة أكبر بكثير وما تحمله أرض غزة من مفاجآت، قد يشكل محطة فارقة، ونهاية للردع الاسرائيلي، وسقوط قدرته على حماية جبهته الداخلية حتى في العمق.