كانت الثورة الليبية هي الثورة الوحيدة من ثورات الربيع العربي التي اكتملت أركانها وكانت تسير في الطريق السليم، طريق الثورات الوهاجة التي تثور على كل ماهو قديم فاسد وتهدمه لتبنى من جديد. ولكن قوى الشر العميلة في المنطقة، والتي تحركها الأصابع الصهيونية والأمريكية، لم يمهلوها وقتاً للبناء، فأدخلوها في صراعات مع بعضها البعض.
مدخل الثورات المضادة
تقاتل ثوار الأمس ورفقاء الدرب مع بعضهم البعض، وتدخلت القبائل والعشائر في الصراع، وتعالت النعرات الاجتماعية وكثرت الفتن، فضاعت الثورة في تقسيم الغنائم وتنفس فلول النظام القذافي الصعداء، وخرجوا من جحورهم معلنين عن أنفسهم، مستغلين حالة الفرقة والقتال بين الثوار، وتقسمت ليبيا إلى شطرين حتى الآن، لكل منهما حكومته، شطر شرقي في قلبه مدينة "بنغازي" ثاني أكبر مدينة بعد طرابلس، مفجرة الثورة ووقودها في الأيام الخوالي، والتي هاجمها العميد المتقاعد المختال بنفسه "خليفة حفتر" رغم أنه لم يحقق أي نصر في حياته بل الحرب الوحيدة التي دخلها فى تشاد خرج منها مهزوماً مدحوراً ذليلاً أسيراً، ولكنه استقوى على شعبه بمليشياته المرتزقة، وقاتل أبناءها بعملية عسكرية أطلق عليها "عملية الكرامة" واستطاع أن ينتزعها من الثوار ويسيطر عليها وضمها إلى باقي المدن التي تحت سيطرته.
نجح حفتر في تقديم نفسه على الساحة الخارجية باعتباره خصما للإسلاميين
حرب الإسلاميين
نجح حفتر في تقديم نفسه على الساحة الخارجية باعتباره خصما للإسلاميين، وخاصة الإخوان المسلمين في ليبيا، وهو ما أكسبه دعم أمريكا وفرنسا والإمارات ومصر، فتلك الدول كانت تبحث منذ البداية عن شخصية شبيهة لشخصية القذافي الدكتاتورية المجنونة التي تُحارب كل ما هو إسلامي وتحكم البلاد بالحديد والنار. ولم يرهقها البحث كثيراً عن بديل للقذافي، فقد وجدته في خليفة حفتر، تلك الشخصية الدموية المريضة الحالمة للزعامة والطامعة للسلطة، وخاصة أنه تربى في غرف الاستخبارات الأمريكية بعد فك أسره في تشاد وتخلي القذافي عنه وإنكاره له، فانشق عنه بعد أن كانا رفقاء درب في ثورة الفاتح، وهو ما تلقفه حفتر سريعاً واصبح تحت إمرتهم وسيطرتهم.
تلاقى الطرفان على هدف واحد: القضاء على الجماعات الإسلامية التي تسيطر على ليبيا، أي القضاء على الثورة الليبية، ومن المفارقة الغريبة أن حفتر كان يقاتل بجانب هذه القوات ضد القذافي إبان الثورة الليبية عام 2011 قبل أن ينقلب عليهم ويتحول إلى عدو لدود لها!
معركة طرابلس معركة فاصلة بين قوى الثورة وقوى الثورات المضادة، إنها الفيصل بين الحق والباطل.
عقبة أمام حلم حفتر
وظلت العاصمة طرابلس هي العقبة الوحيدة أمام تحقيق حلم العميد المهووس الذي لقب نفسه (بالمشير) ووضع على صدره الأوسمة والنياشين ووضع خلفه النسر الضخم وهو المهزوم في الحرب الوحيدة التى دخلها!!، ومن أجل تحقيق هذا الحلم بأن يصبح رئيساً لليبيا هاجم العميد الدموي طرابلس في عملية مباغتة، ومن المؤكد أنه أخذ الضوء الأخضر من قوى الشر وزعماء الثورات المضادة قبل أن يقوم بها، فقد كان في زيارة للسعودية قبل القيام بها بأسبوع، التقى خلالها الملك وولي عهده، كما أنها جاءت قبل أيام من انعقاد مؤتمر "المؤتمر الوطني الجامع" الذي ترعاه الأمم المتحدة، وهو يعلم أنه لن يحقق أحلامه في الزعامة، فاستغل انشغال المنطقة بالثورة الجزائرية لضرب عصفورين بحجر واحد، فهو إلى جانب تحقيق هدفه الشخصي، أراد إحداث اضطرابات وقلاقل على الحدود الجزائرية يشغل الثوار عن مطالبتهم بالانتقال الديمقراطي ويفتت قواهم ويشتت شملهم، فقوى الثورة المضادة يهمها في المقام الأول والأخير إجهاض الموجة الثانية من ثورات الربيع العربي التي تقض مضاجعهم.
كان حفتر يتصور أنه بمجرد أن ألقى بيانه المقتبس من خطاب سيد الخلق أجمعين النبي محمد عليه صلوات الله عند فتح مكة "من ألقى سلاحه فهو آمن ومن دخل بيته فهو آمن"، أن أهل العاصمة سيرفعون الرايات البيضاء كما دعاهم ويسلمونه المدينة على طبق من فضة، فإذا بها تتحول لمعركة شرسة يسقط فيها جنوده ما بين قتيل وجريح وأسير، واستطاعت قوى الثورة ان تتصدى له ويدحروا ميليشياته، فلم يجد حلاً أمامه غير ضرب المدنيين والمنشآت المدنية، وخاصة أنه قال بكل غطرسة أنه سيحسم معركة طرابلس في غصون أسبوعين على أقصى تقدير، فتوحدت كل الفصائل المتخاصمة ضده ولم تفلح محاولاته لإحداث الفتن بينهم، حتى حلفاؤه نواب طبرق عقدوا اجتماعهم لأول مرة في طرابلس معلنين استنكارهم لهجوم حفتر على طرابلس..
ميوعة عالمية حول هجوم حفتر
غابت جامعة الدول العربية عن هجوم حفتر كعادتها دائما في معظم الأحداث الخطيرة التي تمر بها الأمة، فضلاً عن أنها تدار من قِبل الثورة المضادة التي يسيطرون على قراراتها، ولكنها أيضا ليست وحدها الغائبة بل دول العالم الغربي الاستعماري لم تدن هجوم حفتر، حتى قرار مجلس الأمن الصادر بخصوصها لم يدن حفتر بل طالب بالحوار بين الطرفين المتنازعين..
هناك ميوعة عالمية حول هجوم حفتر تظهر في باطنها موافقة ضمنية على هذا الهجوم الحفتري الذي سيخلصهم من الإسلاميين (الإرهابيين)، وليس غريباً أن يدعمه دونالد ترامب وإيمانويل ماكرون وفلاديمير بوتين وصبيانهم في المنطقة العربية، فهذا النموذج الحفتري هو النموذج الأمثل الذي يريدونه لحكم البلاد العربية..
لم تقم الثورة الليبية للتخلص من القذافي لتأتي بقذافي آخر، لذلك سيستبسل الثوار الليبيون في الدفاع عن ثورتهم بكل ما أوتوا من قوة لتتحطم أحلام حفتر المريضة على مشارف طرابلس..
وستنفق قوى الشر مئات المليارات على حفتر ومليشياته كي ينتصر العقيد المهوس ويقضي على الإسلاميين في طرابلس..
إن معركة طرابلس معركة فاصلة بين قوى الثورة وقوى الثورات المضادة، إنها الفيصل بين الحق والباطل.
ملاحظات أساسية حول إعادة الانتخابات في إسطنبول
لغز البغدادي.. التفكير من خارج الصندوق
الاعتداء الإماراتي على ليبيا أمام أعين المغاربيين