في الآونة الأخيرة، تخرج علينا الصحف كل يوم برقم جديد وبمشروع مختلف تدخل به
مصر موسوعة جينيس للأرقام القياسية، وكأن ذلك قد صار هدفا.. وصارت كلمة "أعرض" وكلمة "أكبر" وكلمة "أوسع" من الكلمات التي تستخدم على الألسنة للتعبير عما يسمونه الإنجازات العريضة..
فها هو أكبر مسجد وأكبر كاتدرائية في منطقة نائية لم تؤهل بالسكان بعد، وفي ذات العاصمة الإدارية مدّ هؤلاء مائدة للإفطار في شهر رمضان كأطول مائدة، حتى يسجلوا ذلك الإنجاز في موسوعة جينيس للأرقام القياسية، وكأن تسجيل مثل تلك الأرقام في هذه الموسوعة علامة على التقدم ومؤشر على الإنجاز. ثم تخرج علينا جوقة الإعلام من بعد ذلك لتقوم بمعزوفتها المتكررة وأسطوانتها المشروخة باستخدام أفعل تفضيل؛ في أمور لا تشكل حياة أفضل للإنسان العادي ومعاش المواطن اليومي.
وحينما حدث في وقت من الأوقات مشروع التفريعة الذي أسماه الإعلام وقتئذ مشروع قناة السويس الجديدة، وكأن قناة أخرى تشق وأن هذه القناة المستجدة ستقلب الطاولة في دخل قومي جديد يحصى بمليارات الدولارات، فإذا بالصحف تطالعنا في هذه الأيام بخبر محزن وطريف في آن واحد؛ عن أن وزارة المالية قد قررت أن تتقدم لتسديد مديونيات قناة السويس التي بلغت 600 مليون دولار، من إجمالي ديون مستحقة على هيئة قناة السويس ضمن تكاليف مشروع تفريعة قناة السويس الجديدة في 2015.
وكان بالنسبة لي الأمر يشكل صدمة كبيرة، فبعد ثورة التوقعات التي أعلنها هؤلاء، والافتتاح المهيب ودعوة الزعماء لحضور الافتتاح، والتبشير بالأموال التي ستمطر علينا، والتباهي بقيام الناس العاديين بتمويل تلك التفريعة بمبالغ جمعوها في أيام قليلة، وتتعدى 60 مليار جنيه، والمباهاة بأنهم فعلوا كل ذلك من دون دراسات جدوى، واستقدام شركات الحفر من كل مكان حتى ينفذ هذا المشروع في زمن قياسي.. وبعد ذلك قل دخل قناة السويس ولم تمطر الدنيا ذهبا أو دولارات، ولكن يتحدث الناس الآن عن ديون واجبة للسداد نيابة عن قناة السويس. وحينما سئل كل هؤلاء عن دخل قناة السويس بعد هذه التفريعة، وفائض الوعود وبيع الأحلام وتدبيج
الأوهام، قالوا إنه لم يكن من المقصود أن يدر ذلك دخلا أو أن يحسن اقتصادا، ولكن هذا المشروع لم يكن إلا ضمن خطة (لاحظ كلمة خطة، رغم أنه لم يتم القيام بدراسات الجدوى المشروع لتنفيذ هذا المشروع) لرفع الروح المعنوية لهذا الشعب. هكذا تحول الأمر من مشروع اقتصادي إلى مشروعات لرفع الروح المعنوية.
ومن العجيب حقا أن نرى في عالم الأحداث كل يوم محاولة لرقم قياسي جديد، ليس تعبيرا عن حالة إنجاز حقيقي أو جوهري، ولكنه ضمن رؤية كبرى لخداع الناس بوهم إنجاز، حتى سخر الناس من كل ذلك ليتحدثوا عن المشاريع القومية بأنها "مشاريع الفنكوش"، وفق أحداث فيلم عربي كان يقوم على فكرة بيع الأوهام.
إن هذه الطريقة في التفكير ضمن هذه الظاهرة الاستبدادية الفاشية في مصر؛ إنما تعبر عن حالة زائفة ومزورة لتصوير الأمر على أنه إنجاز، وما هو إلا أوهام، وإن شئت الدقة ليس إلا هدرا وإهدارا. فإذا قلت: وما فائدة ذلك؟ قالوا إنها لمواجهة للأشرار وكيد الأعداء والخصوم، حتى أن صحيفة مصرية بدأت تخرج رسوما كاريكاتيرية، في محاولة منها لمكايدة دولة أخرى، وأن رئيس تلك الدولة في حالة من الاكتئاب من جراء تلك الإنجازات المصرية.. ما هو ذلك الإنجاز؟!
أعرض كوبري فيه ممر زجاجي.. ومن الإشكال في هذا الإدراك أن تبدو عملية الترويج والتسويق كحالة إعلانية ليس لها من تأثير، لتخرج معزوفة الإعلام الاستبدادية وتتحدث عن مصر الجديدة ومصر المستقبل.
إلا أنه، ومع تلك الأخبار بتلك الإنجازات المزعومة، عاجلتنا أنباء أخرى بعد هذه الإنجازات الوهمية وترويج وهم الفاعلية عن أمور أخطر بأرقام خطيرة؛ حول نسبة الفقر في مصر التي زادت على النصف من عدد السكان، وفق تقديرات هذه البيانات والتقارير. كما يؤكد البنك الدولي في تقريره أن 60 في المئة من سكان مصر إما فقراء أو أكثر احتياجا.. وعن حالة التعليم في مصر التي احتلت فيها المراكز الأخيرة، رغم أنهم قد صدعوا أدمغتنا حول تطوير التعليم من خلال مؤتمرات ومهرجانات، ثم كانت "قصة التابلت" المهينة التي أشرنا إليها في مقالات ثلاث؛ بأحداث كاشفة فاضحة جعلت هذا محلا للتندر والسخرية.
وفي الوقت ذاته صدر تقرير عن سيادة القانون يضع مصر في التزامها بذلك في ذلك آخر دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتحتل مرتبة متدنية بين دول العالم. وقد احتلت مصر المرتبة الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والمركز 110 من 113 دولة في مؤشر سيادة القانون الذي يعده مشروع العدالة العالمي. وهنا وجب علينا أن ننظر إلى ما يمكن اعتباره حقيقة إنجازات حقيقية تمس حاجاتهم الأساسية، وما يعد إنجازات وهمية مفتعلة تمثل حالة إعلانية لتزوير وتزييف حالة المجتمع.
تعالوا إذا نتحدث عن المثلث الرهيب الذي نحتل فيها مراتب متدنية في ترتيب الدول، وذلك في ثلاثة مجالات أساسية وخطيرة، وهي الفقر والتعليم والعدالة. ومع ذلك، فقد خرج علينا إعلام المكايدة ليتحدث عن تلك الإعلانات، ومنها إتيانهم بطالب يستذكر دروسه على كوبري روض الفرج الجديد، بعد أن أخذوا منه تصريحا بأن الكوبري يحفزه على مذاكرة دروسه.. باله عليكم، ما علاقة الكوبري بالتحصيل والتعليم؟ ولكنهم صاروا أبواقا للنفاق والتطبيل والتزييف.
دعونا نعود إلى المثلث المهم الذي تُصور لنا الحالة.. مزيد من الفقر، ومزيد من الانتهاكات لسيادة القانون، ومزيد من تدهور التعليم. ما بالنا بهذه الأرقام، بين موسوعة جينيس للأرقام القياسية وبين موسوعة الناس للأرقام المعاشية؟ فهل الكوبري العريض هو الذي سيحل مشاكل الناس؟ ومثله تلك
المائدة التي مدت للإفطار والتي جمعت أناسا من كل حدب إلا فقراء الوطن، فجمعت من طبّلوا ورقصوا وهلّلوا، وليس من جاع وافتقر واحتاج.
ثم طالعنا نفس هذا الرجل الذي تصدر سدة الحكم بانقلاب عسكري، وقتل وحرق وخنق واختطف وطارد واعتقل وجوّع، يتحدث في الاحتفال بليلة القدر عن إسراف الناس، فيرى اتهام الناس بالإسراف، ويؤكد أن هذا من أسباب فقرهم، كما يؤكد أيضا أن المسلمين مسؤولون عن "الإسلاموفوبيا" مسؤولية كاملة، ولم ير إسرافا في مد مائدة الإفطار في عاصمته الإدارية حتى يدخل موسوعة جينيس للأرقام القياسية..
أقول له إن أمرك في ذلك لا يتعلق فقط بإسراف، ولكنه قبل ذلك تستحق به الحجر؛ حينما تهدر الأموال في مسائل ليس لها من أثر على معاش الناس وتحقيق ضروراتهم الأساسية. إن ضرورات الناس في خدمة معاشهم حتى لا يفتقروا، والتعليم حتى لا يجهلوا، وتوفير الأمن لهم حتى لا يظلموا.. أعرفت أيها السفاح الفاشي أي أرقام هي أهم لمعاش الناس؟ فإن الأرقام التي تدخل بها الموسوعات لا تؤثر على معاش الناس وحياتهم؛ ولا تشكل أي مؤشر حقيقي على الإنجاز والفاعلية. لو أردت أن نعدد لك من الأرقام والأحداث ما تفضح لك سوء عملك؛ لعرفت أن إهمالك لهذا الشعب وتفريطك في هذا الوطن وإفقار عموم الناس فيه وسيرة الظلم التي تقوم عليها؛ هي ما تستحق أن تدخل موسوعة
الأرقام القياسية في زيادة الظلم وتعميم الفقر وتشييع الجهل.