انقسمت الساحة السياسية هذا الأسبوع بين مؤيد ومعارض لتنقيحات اقترحتها حكومة الشاهد وأعلنت حركة
النهضة دعمها؛ تخص القانون الانتخابي، وشملت فصولا مختلفة تستهدف صعود نماذج تحظى بشعبية متزايدة حسب مختلف استطلاعات الرأي. ورغم أن بعض التنقيحات لا تفعل إلا أن تؤكد
قوانين قائمة، فإن البعض الآخر يستهدف ملء فراغات. فالمؤيدون للقانون يعتبرونها شرطا أساسيا لـ"حماية الديمقراطية"، والمعارضون له يعتبرونه "تهديدا للديمقراطية". فهل نحن إزاء صورة إما أبيض أو أسود؟ أم هي وضعية جدلية أكثر تعقيدا؟
نشرت مؤسسة "سيغما" هذا الأسبوع استطلاعا جديدا؛ أكد اتجاها متصاعدا يتمثل في صعود، بل وهيمنة أطراف "سياسية" جديدة "جمعياتية" تختص في العمل الخيري، وتحظى بدعم مالي وإعلامي ضخم؛ أهمها ظاهرة نبيل القروي التي تحدثت عنها سابقا. المثير للانتباه أن هذه الظاهرة المثيرة للجدل ليست الأولى في نوايا الرئاسية فحسب، بل قفزت بقوة لتكون الأولى وبفارق كبير عن الثاني، حركة النهضة، حوالي 30 في المئة مقابل 16 في المئة. والرقم أكبر في استطلاع آخر اطلعت عليه في ذات الفترة، وهذا رغم أن القروي لم يؤسس حزبا بعد للمشاركة في
الانتخابات التشريعية.
نعم، هي مؤشرات غريبة، لكن الواقع يتجه إلى الغرابة بسبب خيبة أمل الناخب الواضحة من منظومة الحكم، بل أيضا من السياسي الكلاسيكي.
والنقطة الإيجابية الوحيدة في إمكانية دعم الحزب المعارض الأساسي، والذي أكد حصوله على الموقع الأول في هذه العائلة منذ الانتخابات البلدية بمعزل عن الاستطلاعات (التيار الديمقراطي)، أنها خطوة أولى حتى الانتخابات المبكرة المتوقعة في رأيي في 2020، بسبب صعوبات تشكيل حكومة مستقرة.
على وقع الاستطلاع، تخلل الأسبوع أكثر من حدث، لعل الأهم هو ما نقلته مصادر موثوقة (بالنسبة لي) عن طلب الرئيس السبسي يوم الأربعاء، من رئيس حركة النهضة، مساعدته على تسويق نيته في تأجيل الانتخابات، كأحد حلول الأزمة بمنظومة عجوزة. إذ يبدو أنه تمت مناقشة الأمر في "مجلس الأمن القومي" وحصل على شبه إجماع، بالاستناد على أحد فصول الدستور حول "خطر داهم" لتأجيل الانتخابات. تجب مواجهة رموز الشعبية والخطاب الفاشي (الأول نبيل القروي والثاني عبير موسي زعيمة "الحزب الحر الدستوري" وبقية المتحايلين)، لكن ليس للتحايل وضرب مبدأ أساسي أي دور بالانتخابات.
ماذا بعد التأجيل؟ هل سينتهي صعود القروي أو غيره؟
لا نحمي الديمقراطية بتعليق الانتخابات. هذا حل العاجزين من ذوي الغرائز الاستبدادية.
كذلك إثر الاستطلاع، سارعت الحكومة مباشرة إلى تقديم مشروع تقيحات جديدة في القانون الانتخابي.
المشكل الأساسي في التنقيحات الجديدة على القانون الانتخابي المقترحة من حزب الشاهد، والتي تدعمها اليوم النهضة، أنها تعطي لهيئة الانتخابات سلطة تقديرية بعيدا عن القضاء؛ لتقييم خطاب المرشحين ("تمجيد الإرهاب" و"رفض التداول السلمي على الديمقراطية"..). هي تعكس من هذه الزاوية عقلية استسهال وتسرع، وليس لها علاقة بحماية الديمقراطية. تذكرني هذه التنقيحات تحديدا بمؤسسة "تشخيص مصلحة النظام" الإيرانية التي ترفض الترشحات بناء على تقديرات سياسية، بمعزل عن المسار القضائي. وللمفارقة، يمكن أن ترتد على من هم وراءها في المستقبل خاصة النهضة.
على القوى الديمقراطية رفع أي دعم عن هذا القانون ما دام يتضمن هذه التنقيحات. عليها عدم التورط في الصورة مع من يريد لعب دور "الترزي"؛ لمن يحق لهم الترشح ومن يريدون تأجيل الانتخابات؛ من يريدون حسم التداول بتوليفات قانونية وتوظيف متعنت للدستور، وليس بإقناع المواطنين. ولا يمكن أن نتخيل طرح هذه التنقيحات لولا نتائج الاستطلاعات الأخيرة، والسقوط المدوي خاصة للشاهد وحزبه في نوايا التصويت.
تكتيكيا، عرض القانون على التصويت وعدم مروره، مثلا بسبب عدم الانضباط في التصويت (وهو أمر محتمل جدا وفقا لما تتم مناقشته في الكواليس) سيكون وبالا على المدافعين عنه. وهو ما حصل فعلا في أول جلسة لمناقشة القانون يوم الخميس قبل رفعها وسط اتهامات متبادلة بعدم الالتزام بالتوافقات، ويمكن أن يتكرر نفس التجاذب في جلسة الاثنين.
بالمناسبة، من عارضوا قانون العزل السياسي في التأسيس الديمقراطي، بل استفادوا أساسا من إلغائه، لا يحق لهم إعطاءنا الآن دروسا في كيفية حماية الديمقراطية. نحن نتصرف في الظروف والمالات التي خلقتها أساسا وفي جزء كبير منها؛ سياساتكم وحصيلتكم والنماذج المتحايلة المتجددة المنشقة عنكم.
تتعامل النخبة المثقفة- المسيسة تقليديا باستعلاء وإنكار، وتتساءل باستغراب: كيف يمكن لجملة إنشائية فارغة وشعبوية مثل "نقطع (نمزق) تسكرة الفقر" التي يرددها كثيرا القروي؛ أن تكون رافعة انتخابية أساسا؟
المرشح الشعبوي يتحدى اللغة والمفاهيم التقليدية. وكلما اعتقدنا، كمتعودين على اللغة التقليدية، أنه أخطأ تواصليا وسيخسر ناخبيه، كلما كان في الواقع يغذي طلباتهم بلا توقف في الإقصائية والبحث عن الغرابة.
هذه الديناميكية هي التعبير الأمثل عن الهوة المتنامية بين السياسيين والناخبين المعتادين، والسياسيين وناخبيهم غير التقليديين.
وتجد النهضة، بوصفها أكبر جسم حزبي كلاسيكي، نفسها في قلب العاصفة، خاصة أن نوايا التصويت بوضعها حزب نبيل القروي وبفارق كبير في التشريعية؛ إنما تهدد أساسا موقع النهضة كـ"حزب التشريعيات" الأول في البلاد. وهي تتهيأ أيضا لمناقشة معمقة للتحول أيضا إلى "حزب الرئاسيات"، بعد أن تجاهلت هذا الموقع منذ مشاركتها في الحكم. ومن الواضح أنها ستعدل أوتارها، وهي تعيش على وقع انتخابات حماسية داخلية لتشكيل قوائمها التشريعية، والتجاذب بين مختلف خطوطها، وسيصبح مبدأ وجودها في الحكم، وهو شرط أساسي كما تراه لوجودها، مهددا.
ومن الواضح أن مجلس الشورى الذي كان مقررا في 14 حزيران/ يونيو وتم تاجيله بسبب هذه التطورات إلى الأسبوع القادم؛ سيكون أول مناسبة لطرح موضوع الرئاسيات أو "العصفور النادر" (كما أسماه رئيس النهضة) بشكل مؤسساتي، بعد تأجيل طرحه في أجندة الشورى أكثر من مرة. إذ أحجم على ما يبدو المكتب التنفيذي المعني بتقديم تصور حول الرئاسية؛ عن القيام بذلك حتى الآن. وهناك ترقب لما ستطرحه "ورقة التنفيذي" التي ستقدم في الشورى، وهل ستدعم خيار "المرشح النهضوي"، وهل سيعني ذلك التمسك بخيار ترشيح رئيس الحركة بمعزل عن "رغبته الشخصية".
عموما، على الأرجح أن نقاش مرشح الرئاسية أو "العصفور النادر" سيكون من زوايا مختلفة، وهي كالتالي:
- أن يكون المرشح داعما لسعي الحركة للفوز برئاسة الحكومة، حيث سيكون المرشح ورقة تفاوضية، إذ للتذكير ستنطلق المداولات الرسمية لرئاسة الحكومة مباشرة قبل انطلاق سباق الرئاسية.
- أن يكون معنيا بحماية تموقع النهضة في الحكم إن فشلت أي مفاوضات حول رئاسة الحكومة.
- أن يقدم النهضة لأول مرة كـ"حزب رئاسيات"، وليس تشريعيات فحسب.
وهنا ستكون خيارات النهضة من الخيارات المطروحة محدودة، وستتراوح بين التموقع بقوة في الحكم عبر التفاوض على رئاسة الحكومة. ومن هنا يأتي دعمها لإقصاء الأطراف "الجديدة" الشعبوية التي ستقلص من تموقعها في البرلمان، أو تجريب التنافس على الرئاسية على ضوء تحول النظام السياسي في الأفق السياسي القادم إلى نظام رئاسي. لكن الواضح أنها ستتجنب عموما خيار تأجيل الانتخابات، وستختار القانون المنقح الذي ينتقي خصومها.