لم يمت في زنزانته رغم أنَّها بضيقها وظلمتها وقسوتها مميته وقاتلة.. لم يمت في محبسه وإنّ أسباب الموت لتحيط به إحاطة الليل البَهيم بعنق الظَّليم.. لم يمت في سجنه على طول مكثه فيه بالسبب الذي مات به أمام منصة القضاء رغم ملازمته له.. لم يمت ساكنا قابعا طاويا؛ لأنَّه لم يكن في يوم من أيام حياته المترعة جهاداً ونضالا ساكنا في نفسه أو قابعا في بيته أو طاويا على ذاته، وإنَّما في قلب الميدان سقط شهيدا، لقد مات كما كان يحيا، مات واقفا مناضلا. لقد كان في حياته وفي مماته استثناء، وهكذا يكون العظماء، وما أعظمها من حياة وما أعظمه من ممات عندما يجتمعان في التوجه إلى الله تعالى: "قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" (الأنعام: 162).
موته هو أكبر شيء يذكرك بحياته؛ كأنَّ هذه الموتة نسخةٌ صامتة من كل صورة حية متحركة في حياته الفياضة بالمواقف. تذكرك وقفته التي مات فيها أمام طغاة القضاء بوقفاته أمام طغاة البرلمان وهو برلماني، وبوقفاته أمام طغاة العالم وهو رئيس شرعيّ، وبثباته على
الشرعية في مواجهة العسكر وهو مظلوم مُنْقَلَبٌ عليه، وبزئيره في القفص وهو ينافح عن الحق ويدافع عن المبدأ، فكان مماته كحياته غصة في حلوق الكافرين والظالمين والمجرمين أجمعين.
كم هي فادحة خسارة الأمّة الإسلامية لهذا الرجل الفذّ، وكم هو جلل مصابها فيه. أين نجده ذلك الذي يمكن أن يشبه الدكتور
مرسي في اجتماع الفضائل في شخصيته العملاقة؟ من أين لنا رجل يجتمع في قلبه الرحمة والحزم، ويلتقي في نفسه الأناة والعزم، ويأتلف في فؤاده الحلم والجلد والهدوء والمضاء، لكأنّه رجل من الجيل الأول تأخرت ولادته ليكون في الآخرين إنموذجا واقعيا لما كان عليه الأولون.
لم يكن ضعيفاً كما يظن المتطاولون، وإنَّهم في هذا الزمان لأكثر من تراب الأرض وأهون منه، وإنَّما أضعفه شعبه المغلوب على أمره، وأضعفه أنصاره الغارقون في خلافاتهم، وأضعفته المؤامرات التي توزن بالجبال في ثقلها وتحصى بالرمال في عددها، وأضعفه تراكم التجارب المرتجلة التي يُسأل عنها الجيل كله، فلم يكن الرجل كرئيس لدولة إلا نسمة من شعبها ونسخة من تجاربها؛ ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وأضعفته ثورة لم تكتمل؛ فسلمته الحكم ولم تسلمه أداة واحدة من أدواته، فصار بحيازته للشرعية دون أدوات السلطة الحقيقية كمن أُعْطي مفتاح السيارة ليقودها وهي بغير تموين ولا ميكنة ولا آلات، في طريق كثرت فيه العقابيل والعقبات.
ولم يكن غافلاً، ولكنَّنا نحن من نغفل عن حجم المؤامرات الدولية والإقليمية والمحلية التي كانت تحاك ضده في السر والعلانية، أم إنَّنا كنَّا ننتظر من قوى الشر التي تُحكم قبضتها على المنطقة أن ترى الشعوب تثور على حكام هم في الحقيقة حراس مصالحها وجباة الخراج لها، ثم تعكف على نفسها منتظرة ماذا تحكم الأيام بين مبارك وبعد صبيان شعبه؟! إنَّنا إذن لأصغر من أن ننظر أبعد من أرنبة أنفنا، فضلا عن أن نحكم حكماً جزافياً على رئيس لم يصبر عليه سنة واحدة شعب صبر على مبارك وحده ثلاثين سنة، وعلى طغمة العسكر مجتمعين ستين سنة أو يزيد!!
وبعد الذي جرى فالأمر جِدّ مختلف، فأمّا عن الرئيس مرسي فالآن طويت صفحة عذابه وفتحت صفحة ثوابه، حسبه هذا البيان الإلهي: "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)" (آل عمران: 169-171)، وأمّا الذين ظلموه فالله معاقبهم "وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ" (الشعراء: 227).
إنَّنا بحاجة أنّ نذكر الشعب المصريّ بجملة من الحقائق البالغة الأهمية؛ لعلها تكون نافعة في تكوين عقيدة ثورية دائمة العطاء، أول هذه الحقائق أنّ الرئيس محمد مرسي كان بالإجماع الرئيس الوحيد في تاريخ
مصر المعاصر الذي له شرعية حقيقية غير مزيفة؛ بنجاحه في انتخاب صحيح ونزيه لم يشكك فيه عاقل ولا سفيه، سبقته حالة من الرضا العام من قبل العلماء والصلحاء والدعاة وأهل الحل والعقد داخل مصر وخارجها؛ بما يشبه البيعة الخاصة التي تسبق بيعة العامّة، وتلاه فرح عارم اجتاح الشعوب الإسلامية بعد طول ترقب وانتظار، بما يؤكد أنّ ولايته كانت مطلباً إسلامياً عامَّاً، فهذه جملة متصلة متسقة قد توثقت الصلة بين حلقاتها التي تتابعت لتؤكد على الحقيقة التاريخية الهائلة، حقيقة تفرد الرئيس محمد مرسي بحيازة شرعية سياسية في أعلى درجاتها.
الحقيقة الثانية: أنَّ هذه الشرعية لم يشبها ما يخل بها شرعا ولا قانونا. فمن جهة الشرع فالرجل استمد شرعيته من الجهتين: من اختيار الأمة له ورضاها به، ومن كونه قاد الأمّة بكتاب الله، ولا يلزم بالضرورة ليكون قائداً لها بكتاب الله أن يكون محكماً للشريعة مطبقا لجميع أحكامها إذا لم يكن قادراً على ذلك لأي سبب من الأسباب السالبة للاستطاعة؛ إذ إنّ تحكيم الشريعة يعد من الأحكام المنوطة بالاستطاعة والقدرة. ومن جهة القانون، فإنّ ما ثبت بإرادة الأمّة لا يزول بعسف العسكر ومن وراءهم من الخونة. فالانقلاب على شرعية الشعب لا شرعية له، وما تلاه بني على باطل فهو مثله في البطلان. وولاية الرئيس لم تنته بانتهاء مدتها؛ لأنَّ الانتهاء لم يكن بقيد في الشرعية المستمدة من الأمة، وإنما بأثر عارض من عدوان وقع عليها، والشعب الذي أعطاه الشرعية لم يعين من يخلفه كحاكم أسير، ولا يمكن تسمية ما جرى مع
السيسي انتخابا ولا تولية من حيث الأصل، وهذا أمر معلوم من الواقع بالضرورة. وهذا يعني أنّ الرئيس مرسي حين مات كان هو الرئيس الشرعيَ للبلاد، ويعني كذلك أنّ البلاد شاغرة من السلطان خالية من الحكم.
الحقيقة الثالثة: أنَّ الشرعية قد التحمت بالثورة وامتزجت بها؛ فلم يعد هناك حاجة للتنظير حول الفارق بينهما ولا في تكييف العلاقة بينهما؛ لأنّ الشرعية عادت لمانحها وهو الشعب الذي صنع الثورة والذي يناط به استعادتها، فالآن يسهل المسار وينتهي اللغط والحوار، وتلتقي على النضال الثوريّ كلمة الأحرار، آن لنا جميعا أن نلتقي على كلمة سواء: "الثورة على الظلم".
الحقيقة الرابعة: أنّ النظام الانقلابيّ مسؤول أمام الأمّة وأمام العالم عن وفاة الرئيس، ولا ينطبق عليه أصل البراءة حتى تثبت الإدانة؛ لأنّه ارتكب من قبل جريمة الاختطاف للرئيس؛ فهو على أصل الجريمة حتى يُثبت هو خلافَ ذلك، وأنَّى له ذلك وقد ثبت أنّه أساء معاملته ومعاملة سائر سجناء الشرعية أسوأ معاملة، من السجن الانفرادي والحرمان من الغذاء والدواء والزيارة وكافة الحقوق، ومن ثمّ فإنّ الأمّة مسئولة عن محاسبة من قاموا بهذه الجريمة الشنعاء النكراء، وهذا الحساب قادم لا محالة، إن شاء الله.
وأخيرا، فإنّ مصر التي أنجبت الدكتور محمد مرسي ولّادة، وسوف تكون وفاته مصدر إلهام لهذا الجيل، فلنتخذ من الحدث شعاعا ينير وطاقة تدفع على الطريق، ولنصبر صبر العاملين المناضلين، والله مولانا ونعم النصير، "ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ" (محمد: 11).