تأتي علينا تلك الأيام لتقلب المواجع وتجلب الشجون، ويقوم كل فريق بالتأكيد على أيامه دون الأيام الأخرى، إنها أيام ملتبسة.. كنت قد كتبت قبل ذلك عن هذه الأيام الملتبسة التي برزت مع ثورة يناير وما بعدها، وشكلت ساحة للاستقطاب، وانتقل الأمر من مجرد عتاب الرفقاء إلى سباب الخصوم والأعداء، وبدا الأمر خطيرا في التعامل مع تلك الأيام؛ وكأن هذه الأيام كلما مر الزمن تدار حولها الحروب الكلامية، فلا تضع أوزارها إلا بإتيان عام جديد.
ولم يحاول الناس بشكل من الأشكال أن يستردوا ذلك التوافق الذي برز في الميادين، وأن يرفعوا ذلك الالتباس عن تلك الأيام، وأن يتفهم الجميع مواقف بعضهم البعض.. لا نقف في ذلك عند حد المعايرة أو المكايدة أو إسناد المسؤولية في الخطأ أو المبارزات الكلامية التي تطفوا على السطح كل حين.
وفي واقع الأمر، فإن هذه الحال استمرت معنا رغم وجود انقلاب عسكري حاول أن يعطي لنفسه غطاء شعبيا حتى يدعي الشرعية ويتدثر بها، وبدا الناس متفرقين متحزبين مستقطبين؛ يمارسون أقصى حروب الهجاء، ويفلت في كل مرة العسكر بالغنيمة.. مرات إبان المجلس العسكري، ومرة أثناء حكم الرئيس الشهيد مرسي، ومرات أخرى بعد انقلاب فاجر فاشي. ومن المؤسف حقا أن تستمر هذه الحال، فلا نحن أنصفنا ثورة يناير، ولا أنصفنا المخلصين لها، بل إن
الثورة ذاتها قام العسكر والثورة المضادة، وبأشكال عديدة، بتشويهها والالتفاف عليها ومحاصرتها، وفي النهاية ذكروها بعض الوقت ذرا للرماد في العيون؛ ولكنهم بعد أسابيع أو شهور لم يعد هؤلاء يطلقون عليها لفظ الثورة، بل تحدث هؤلاء الانقلابيون عن أحداث مرت يجب ألا تعود، ودفعوا بعضا من رجال إعلامهم وزبانيتهم لأن يشوهوا ثورة يناير التي لم تكن لديهم إلا "ثورة خساير" وأنها لم تكن إلا "المؤامرة".
هكذا لعب معظم هؤلاء دورا في تشويه الثورة الأصل، وساعدنا نحن في استهدفها حتى يمارس مهمته تلك بيسر كبير، مستغلا حالة الفرقة العاتية والاستقطاب المقيت.
نقول كل ذلك ونحن نمر بأيام تستدعي 30 حزيران/ يونيو، كما تستدعي 3 تموز/ يوليو، حينما عاجل العسكر كل هؤلاء، خاصة أهل ثورة يناير، بانقلاب عسكري واضح وفاضح، وصارت الاتهامات تُتبادل كل حين مع بروز هذه الأيام، بل ومع كل حدث يتعلق بقيام العسكر ومنظومة انقلابهم باعتقال أحد من تيار ديني أو مدني؛ رغم أنني لا أحبذ تلك التفرقة ولا ذلك التصنيف، فإن هؤلاء لا يملكون من خطاب إلا الشماتة ولا يجيدون إلا الهجاء، وصار كل طرف يعاير الآخر بمواقف معينة وأيام بعينها، ويقف عند أحداث يحددها هو وربما يتغافل عن أحداث أخرى.
هذه الحال لم تقتصر فحسب على شق الجماعة الوطنية وتصدع أهم علائقها، ولكنها مست عصب المجتمع ونخاعه وشبكة علاقاته الاجتماعية، فأحدثت انقساما لا يقف عند أبواب السياسة، ولكن تفرقا وتشرذما نال من أصول الاجتماع الانساني والجماعة الوطني، وباتت الكراهية عنوانا كبيرا يبث كل سمومه، فتزداد صورة الكراهية وتصنيعها لدى الجميع، وتتراكم مشاعر الفرقة والاستقطاب.
ومن المهم أن نذكر أنه حينما مرت ذكرى ثورة يناير الماضية تُركت الأقلام تنتقد وتهيل التراب على تلك الثورة المجيدة، وحاول البعض تأكيد تشويه هذه الثورة، بل إن البعض صار يتحدث عن أننا لا نحتفل في
25 يناير بثورة؛ ولكن نحتفل بعيد شرطة، وتتوجه الرسائل بصورة رسمية لتتحدث عن عيد الشرطة، ولا تُذكر ثورة يناير إلا بتلك الأحداث التي مرت بمصر، والتي يجب أن لا تتكرر أو تعود. ومن المشاهد أيضا بمقارنة بسيطة أن نرى تلك الاحتفالات التي روج لها النظام الانقلابي احتفاء بما أسماه ثورة
30 يونيو، حتى أعلن الانقلابي الأكبر انها "أعظم أيامنا".
وفي حقيقة الأمر، يجب أن نتوقف بصراحة شديدة ومكاشفة حول تلك الأيام الملتبسة، ومنها 30 من حزيران/ يونيو، خاصة بعد قيام النظام الانقلابي العسكري بطمس الثورة الأصلية، ومحاولة إحياء هذا اليوم في صورة ثورة لم تكن في حقيقة الأمر إلا تعبيرا عن الخداع والقابلية للخداع، وعبرت عن التعاطي مع ثورة يناير تعاطيا أدى من بعد إلى حصارها وسهّل إمكانات تشويهها. وإن نظرة على الاحتفال بهذا اليوم الذي كان في حقيقة الأمر يعبر عن عملية خداع استراتيجي، ليس فقط لشعب
مصر، ولكن لكافة القوى، في محاولة لتوفير غطاء شعبي لانقلاب عسكري قادم. ومن المهم أن نتحدث عن بعض المفردات التي وردت على لسان المنقلب الكبير الواصف لهذه الثورة بالمجيدة، وتلك الأيام التي ارتبطت بها، والتي أشار إلى أنها لا تزال حية في ذاكرة هذا الجيل.
نعم هو يُحيي ذلك اليوم ويطمس يوم يناير، ويجعل من بعض الشعارات الزائفة التي حملها البعض في ذلك اليوم؛ من قبيل الانتفاض للدفاع عن أعز وأغلى مبادئ هذا الشعب وقيمه، على حد قوله، هي وطنيته وهويته المصرية الأصيلة، ويتحدث عن ذلك اليوم بأنه ميلاد الأمل في ظلام اليأس. وفي حقيقة الأمر، فإن هذا التدليس الذي يحمله ذلك الخطاب إنما يعبر في الحقيقة عن قصور التعاطي مع تلك الأيام الملتبسة، وكأن هذا الانقلابي يريد أن يجعل من 30 حزيران/ يونيو الغطاء الشرعي لذلك الانقلاب العسكري، محاولا بالتدليس أن يجعل ذلك عودة لمصلحة الوطن، والتمسك بتحقيق الأحلام، ومواصلة مسيرة البناء والتنمية، ونشدان مصر الأمان والتقدم. في حقيقة الأمر أن هذه الكلمات الزائفة التي يركبها المنقلب هي كلمات في حد ذاتها تعبر عن محاولة لتبيض وجه انقلاب عسكري، وقطع الطريق على مسار ديموقراطي، وأن الخطأ الكبير الذي ارتكب من قوى إسلامية ومدنية إنما يعبر عن نخبة قديمة؛ لم تعد تصلح بأي حال لأن تقود مسيرة التغيير، بعد أن مكنت للعسكر من كل طريق.. أقول: كل الفريقين مكن للعسكر، من خلال استقطاب مقيت، ومن خلال استهانة كل منهما بالآخر، واللجوء إلى حضن العسكر واستدعائهم والاستنجاد بهم.
ومن هنا، فإننا نؤكد وبلا التباس أن على الجميع أن يعتذر عن 30 حزيران/ يونيو.. هؤلاء الذين شاركوا فيها ووقفوا جنبا إلى جنب مع رجال شرطة الذين امتهنوا أبناء هذا الشعب (ولا يزالون)، ومع فلول الحزب الوطني، ومع كل المستفيدين الذين شكلوا مصالح الثورة المضادة.. هؤلاء جميعا أسهموا بشكل أو بآخر في التمهيد والتمكين لانقلاب الثالث من تموز/ يوليو.. ومن جهة ثانية، فإن بعض أطراف من القوى الاسلامية عليها أن تعتذر أيضا عن 30 حزيران/ يونيو؛ لأنها استهانت بهذا اليوم ومقدماته، ولم تقم بالعمل الواجب للوقوف في وجه الاستقطاب الذي مثل أرضية خصبة للعسكر وتمكينهم، فمن مكّن للعسكر بالاستدعاء أملا في الحكم كان يكره الإخوان أكثر مما يحب الوطن، كما أن من مكّن للعسكر بالغفلة والاستهتار والتجاهل والاستخفاف بالحدث قد أخطأ؛ لأن ذلك للأسف الشديد كان المقدمة لطمس ثورة يناير، وعلى هؤلاء من المخلصين أن يتوجهوا لثورة يناير ليعتذروا لها الاعتذار الأكبر، ويقدموا لها كل ما يعين على استردادها أو استئناف مسيرتها. فالتغيير قادم لا محالة، وتلك الأيام انفض كل ما يتعلق بالتباسها، فنحن الآن أمام قضية واضحة: إما أن تكون مع ثورة يناير، وإما أن تكون ضدها، وليس هناك إلا ثورة يناير وما عداها زائف، وعلينا استرداد هذه الثورة وشعبها وإنقاذ الوطن الذي صار في خطر.