بعد اجتماعات ماراثونية طوال يومي الأربعاء والخميس الفائتين، وبرعاية أفريقية ـ إثيوبية، توصل المجلس العسكري الانتقالي في السودان إلى توافق مع قوى الحرية والتغيير (قحت)، التي ظلت تقود الحراك الثوري في السودان طوال الأشهر السبعة الماضية، إلى اتفاق بشأن إدارة المرحلة الانتقالية التي أعقبت سقوط نظام عمر البشير (نشرت عربي21 بنود الاتفاق فور الإعلان عنه).
حسابات خاطئة
في السادس من نيسان (أبريل) الماضي، تدفق طوفان بشري مليوني على مقر القيادة العامة للقوات المسلحة، ورابط فيها، في تصعيد للمسيرات الشعبية المطالبة بتنحي عمر البشير عن سلطة ظل يمسك بزمامها منذ حزيران (يونيو) 1989، وعندما استنجد البشير بفتوى للإمام مالك، مصدرها بعض الأصوليين بجواز قتل ثلث الأمة لصلاح الثلثين (نفاها كبار فقهاء المالكية، وأنكروا نسبتها إلى الإمام مالك، وقالوا إنها جاءت فقط في كتب المخالفين لهم)، أدرك كبار العسكريين في اللجنة الأمنية العليا المناط بها حراسة نظام البشير، أن الرجل فقد توازنه العقلي، وصار خطرا حتى عليهم هم، لأنه سيكلفهم بارتكاب مجازر لا منجاة من إثم وتبعات ارتكابها في ظل حراك شعبي متصاعد شمل البلاد بحواضرها وقراها، فكان أن قرروا إزاحة البشير، في اليوم الخامس للاعتصام الجماهيري أمام قيادة الجيش، ثم شكلوا مجلسا عسكريا لإدارة شؤون الحكم.
كانت حسابات مجلس العسكر خاطئة منذ يومها الأول، فقد حسبوا أن تنحية البشير كفيلة بإرضاء الشارع الثائر، وإلهائه عن الانتباه لحقيقة أن المجلس يتألف من خلصاء البشير وأصحاب الحظوة لديه، ولما لمسوا عدم قبول الثوار لاستمرار نظام البشير بوجوه جديدة، عمدوا إلى إقصاء الجنرالات ذوي الولاء المفضوح للنظام من عضوية المجلس، ولكنهم ظلوا يتصرفون على أنهم وحدهم المؤهلون لشغل مقاعد الحكم.
الاتفاق الأخير هذا نجح في تقليم أظافر العسكرتاريا، بإبعادها تماما عن السلطة التنفيذية، وأنه يتيح للحكومة المدنية تصفية الدولة العميقة
وظل العسكر يعتبرون "قحت" الممثل الحقيقي الوحيد للشارع الثائر تارة، ويفاوضونها على هذا الأساس، ثم ينقلبون عليها تارات أخرى، مستنجدين بفلول نظام البشير، تأسيّا بسيسي مصر الذي تسلل إلى الحكم من شباك ثورة 2011، ثم سد النوافذ في وجوه من أطاحوا بحسني مبارك، وفتح الأبواب لأنصار مبارك ليمسكوا مجددا بمفاصل الدولة، ولكن مع كامل الولاء له.
وبالتأكيد فإن الاتفاق الذي تم مؤخرا بين المجلس العسكري و"قحت" دون طموح الثوار بكثير، فرغم أنه وفي جوهره يهزم مخطط العسكر للانفراد بالحكم، ويعطي قوى الثورة المدنية السلطة التنفيذية (مجلس الوزراء) كاملة خلال المرحلة الانتقالية التي تمهد لانتخابات تعددية، إلا أنه يعطي العساكر نسبة تقارب 50% من السلطة السيادية (مجلس رئاسة الدولة)، وهكذا فإن المؤسسة العسكرية التي لا تمثل بأي حال من الأحوال القوى الشعبية، صارت ندا لـ"قحت" صاحبة الشرعية الثورية، التي تحظى بثقة الملايين، كما ثبت في مواكب 3 حزيران (يونيو)، التي خرج فيها زهاء سبعة ملايين مواطن سوداني إلى الشوارع للمطالبة بالحكم المدني، استجابة لدعوة من "قحت".
والأمر الآخر هو أنه سبق للمجلس العسكري أن قبل بأن تختار "قحت" ثلثي أعضاء البرلمان الانتقالي، على أن يتم اختيار الثلث المتبقي بالتشاور بين الطرفين، ولكن اتفاق الساعات الأخيرة يؤجل البت في أمر البرلمان، ما يعني أن المجلس تنصل عن ذلك التوافق، وأن "قحت" تنازلت ولو جزئيا عن حقها ذاك، مما يعني أن هذه المسألة ستكون لاحقا موضع صراع ونزاع شديدين، قد يخلخلان أو ينسفان الاتفاق برمته.
العسكر لا يؤتمنون على الثورات، ومن ثم فالمرتجى هو أن تبقى الثورة مستمرة،