توفي الرئيس الباجي قائد السبسي رحمه الله، وكان يوما حزينا. لست من أنصاره، بل كنت من بين أشرس خصومه، لكن يبقى أن وفاته رسخت بشكل نهائي طبيعته الجوهرية الأخيرة: سنتذكره جميعا أساسا كأول رئيس منتخب مباشرة من الشعب التونسي. لا يمكن لأي سياسي إلا أن يغبطه على ذلك. بل أكثر من ذلك: توفي يوم "عيد الجمهورية"، وكانت وفاته ذاتها وطريقة انتقال السلطة وفقا لقواعد دستور الجمهورية الثانية (الأولى حقيقة) اختبارا للجمهورية، وتعميدا آخر للتجربة الديمقراطية اليافعة في تونس، التي تواجه في منطقتها العربية الكثير من الأنفس غير المطمئنو، بل والهستيرية.
لكن لحظة الوفاة هذه كانت أيضا مناسبة للتعبير العفوي عن الوحدة الوطنية. هذا المفهوم الجوهري في مساحة "الدولة-الأمة" كان دائما، في سياقنا العربي، عنوانا فاشيا، وذريعة لوأد الحريات ووأد المعارضين أنفسهم أحياء، وتعليق الحقوق والدساتير، في حين أن الحرية ذاتها، ومن ثمة تعبيراتها في مستوى التداول على السلطة، أي الديمقراطية، هي الشرط الحقيقي للوحدة الوطنية، بعكس ما حاولت السردية الاستبدادية أن ترسخه عميقا لدينا. بمعنى آخر، كل سردية وطنجية تستعمل "الوحدة الداخلية" للقمع لا تفعل إلا أن تبذر بذور الفرقة، ولا تؤسس للوطنية ولا لدولتها ولا للسيادة، فقط تضرب أسس المناعة والحصانة الداخليتين. وليست الثورة على ذلك إلا التعبير الآلي المباشر على التقسيم والتفريق والتفتين الذي تقوم به آلة الاستبداد القهرية. ليست الثورات التي تقسم؛ الثورات تعرّي التقسيم لا غير. لن تكون هناك وحدة وطنية صماء وحقيقية إلا بالديمقراطية، حيث ينعى ويحزن للرئيس المتوفى الرئيس السابق، بل وأشرس خصومه.
كانت وفاته ذاتها وطريقة انتقال السلطة وفقا لقواعد دستور الجمهورية الثانية (الأولى حقيقة) اختبارا للجمهورية، وتعميدا آخر للتجربة الديمقراطية اليافعة في تونس
ليس هناك مجال كبير للتحليل والتعميق والتجريد في مناسبات كهذه، فلا يمكن أن نفلت من العاطفي والحميمي، لكن كيف ننتقل من الخصومة السياسية العميقة إلى التعاطف والحزن؟ العامل الأساسي الذي يسمح بذلك هو أننا نشترك في إطار ما. إن صراعنا كان يخفي اتفاقنا على قواعد اللعبة وعلى شروط تحقق السياسة. في نهاية الأمر كنا نخشى دائما ماضي الرجل في منظومة الاستبداد بوصفه إمكانا للعود، لكن الحقيقة أنه بالممارسة بقي أساسا يبرهن على رغبته وتصميمه على التأقلم مع السياق الجديد. لا نتفق معه في كل ما يفعل ومشاكلنا ومشاكله كثيرة، لكن بقي الاتفاق الضمني هو عُلوية صندوق الاقتراع، والأهم عُلوية سقف الحرية.
ألم يقدم قضية ضد مواطن بتهمة الثلب، وخسر القضية وهو في القصر؟ كان ذلك خبرا في عناوين وسائل إعلام دولية، ويبدو خارج السياق عندما يأتي من المساحة العربية.
ألم يقاوم إغراء مراجع الاستبداد العربي وأصرّ على "التوافق" مع الغريم الإسلامي، رغم التحريض المحموم لإسقاط المثال الاستبدادي المصري على تونس، وفرض استئصال تونسيين لآخرين وتدمير التجربة الديمقراطية ذاتها؟!
يلومنا البعض على التركيز على السير الطبيعي للحياة، سواء في وعكته السابقة أو الأمس يوم وفاته. كيف لنا ألا نفعل؟!
هل يجب أن نتذكر الأيام العصيبة في تاريخ "الدولة الوطنية" العربية كلما مات الزعيم؟! حالة الرهبة والهلع والسطوة المتكبرة للدولة بأجهزتها الحاملة للسلاح، وعملية الاستعراض الخرافية لجاهزيتها على ممارسة العنف والتهديد بذلك عبر "الانتشار الكثيف" في الشوارع والساحات بالدبابات والمدرعات والجنود والألولية؟! أو الحالة الهسيتيرية لضمان خلافة الزعيم من العائلة ذاتها أو من الكتيبة العسكرية ذاتها، والأناشيد الحماسية في الإذاعة "الوطنية" الوحيدة المتاحة، ونشرات الأخبار الدعائية الغوبلزية حول "الوحدة الشعبية الصماء" خلف الزعيم الجديد؟!
ثم أصلا كم عدد الزعماء الذين غادروا وهم أحياء دون الذهاب إلى المنافي أو السجون؟! في تونس ذاتها، تمت إحالة الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة من قبل وزيره الأول في "انقلاب طبي" إلى الإقامة الجبرية، ليموت تدريجيا في صمت، ثم لتُقام له جنازة بوليسية! ابن علي المخلوع اختار أن يقبع هاربا من شعبه ومن السلطة القضائية!
نحن فخورون، بل ومغترون حتى الثمالة بكل هذا الاستثناء بالسير العادي في شؤون الناس في طمأنينة
نعم نحن فخورون، بل ومغترون حىى الثمالة بكل هذا الاستثناء بالسير العادي في شؤون الناس في طمأنينة؛ حين يموت رئيس فجأة ويخلفه
بعد ساعات قليلة مؤقتا رئيس لمجلس نواب شعب منتخب ديمقراطيا،
وتهيئ هيئة مستقلة للانتخابات الاستحقاقات الديمقراطية القائمة باستعمال المرجعية اللوجيستية وليس التعليمات، في الوقت الذي تقرر فيه وزارات الداخلية العربية مصير صناديق الاقتراع، إن وجدت أساسا.
ما يحسم مسائل الخلافة ليست عوامل السطوة و"الاقتدار" السلطوي وكم السلاح وعدد المرتزقة الهمج الذين يمكن استقطابهم إلى هذا الطرف أو ذاك، بل ببساطة نص مكتوب توافَق عليه الناس. فقط بهذا المعنى يرتقي الناس من قانون الغاب وحالة الذئاب إلى أن يكونوا بشرا، ولتتحقق بذلك إنسانيتهم.
نحن مشبعون بكل مشاعر السعادة والفرح لتميز كهذا، ولن نتردد في إظهار ذلك على الملأ، وفي كل لحظة مماثلة يتم فيها
اختبار الديمقراطية بالسير العادي المطمئن للحياة؛ إنما نرد بشكل صارم على كل من لا يزال يعتبر "العرب ليسوا أهل ديمقراطية"، وأن "هذه الشعوب لا تستحق إلا الكرباج"، وأن الطمأنينة الوحيدة هي تلك التي يمنحها فرد فرعوني يقبع في قصره وخريفه كبطريق غابريال غارثيا ماركيز. إننا نقوم بتبرج ديمقراطي كهذا باحتقار هؤلاء المستلبين، الذي يصرون على أسر 300 ملايين عربي وعربية في سجن أبدي من الخرافة والعبودية.
نعم ليست هذه الديمقراطية اليافعة بعد مثالية ولن تكون. لا تزال مريضة بآفات الفقر والتنمية غير العادلة، والمال الفاسد، وسلطة اللوبيات، وشراء الضمائر، وكذلك ممن يستثمر في أزمات الناس لتحريضهم ضد الدستور والديمقراطية، ويبيعونهم وهم شراء الرخاء بالعبودية. لكنها تبقى المنظومة الأقل سوءا، والوحيدة القادرة على منحنا الحد الأدنى الضروري من الحرية، أن نشعر أننا بشر ولسنا أنعاما.
الديمقراطية التونسية تفتقد أفقها العربي الضروري، الذي لا مناص منه، لكنها في الوقت ذاته تصمد بدونه، ويجب أن تفعل. فهي النموذج الذي ينظر إليه بقية إخوتنا من المحيط إلى الخليج شاخصين بحرقة.
الديمقراطية التونسية تفتقد أفقها العربي الضروري، الذي لا مناص منه، لكنها في الوقت ذاته تصمد بدونه، ويجب أن تفعل.
وردني بالأمس سؤال على المباشر من قناة تبث من بلد عربي بنبرة يسودها الهلع: "ما مصير تونس بعد الباجي قائد السبسي؟!".
أجبت: "نحن الآن دولة تتمتع بنعمة سيادة المؤسسات لا الأشخاص. كل شيء مقرر في الدستور ولن تنزل المدرعات إلى الشوارع. ذلك معنى أن تحدث ثورة ويكون لك ديمقراطية".
وفاة الرئيس خبر حزين، لكن عزاءنا أن الجمهورية على قيد الحياة.
رحم الله الباجي قائد السبسي.. كان خصما مخضرما وجديرا بمعركة التأسيس للديمقراطية.
ستبقى سيرته مكللة بصفة أول رئيس منتخب مباشرة بشكل ديمقراطي من شعبه... مرحى له.
وكل المجد لكل الشهداء والمناضلين الأحرار الذين فرضوا بتراكم جهود ودماء عقود طويلة على الجميع، الراحل الباجي وجميعنا، أن تكون بوصلتنا الحرية.