يحاول النظام الانقلابي أن يقوم بدورين؛ دور يطمس فيه الذاكرة، ودور يزيف فيه الذاكرة. وهو إذ يحاول القيام بذلك، فإنه يحاول حينا طمس كل ما يتعلق بالحقائق المرة والسياسات القذرة التي يدبجها والانتهاكات الجسيمة التي يرتكبها، فيحاول من كل طريق أن يدفن تلك المعلومات الحقيقية التي تجعل من هذا النظام من أسوأ النظم التي مرت على
مصر، ليعبر بممارساته ومواقفه وسياساته عن أخطر حال؛ يكون فيها ذلك النظام الفاشي بلا سقف في الممارسات، ويرتكب بدم بارد كل الانتهاكات من القتل والاعتقال والمطاردة.. كما يحاول في أحيان أخرى أن يُجَمّل وجهه القبيح من خلال تزييف تلك الذاكرة ورسم صورة مزورة يحاول ترويجها؛ لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تنطلي على هؤلاء الذين يؤمنون بحرية هذا الوطن، وكيف أن مصر الوطن تحولت إلى سجن كبير في نظام
السيسي الانقلابي.
لك أن تتخيل أن هذا النظام الذي أخرج صحفا بعناوين متشابهة ومتكررة تتحدث عن إحباط خطة الأمل وأنه اكتشف تنظيما يريد أن يحيي الأمل، وكأن هذا النظام يريد أن يوجه تلك الرسالة الرمزية بأن من أهم صناعاته أن يكرس في عقل الجميع شعارات اليأس وفقدان الأمل؛ نظام يرى في سياساته الوقوف حيال الأمل بالمرصاد.. وبعد ذلك فلا بأس أن يقوم هذا النظام ذاته بالحديث عن الشباب وفاعليتهم في مؤتمر زائف ومصنوع من شباب يدفعهم إلى الواجهة؛ يمارسون النفاق بأقصى قوة. ويحاول هذا النظام أن يغطي بتلك المهرجانات على صورته الفاشية القبيحة، لكن هذا الذي يقف للأمل بالمرصاد هو من يقيم سجونا ويطلق عليها اسم المستقبل.. لا ندري أي مستقبل يريد إلا أن يحول مصر إلى سجن كبير! ولا بأس أن تقوم مؤسسات بإطلاق رحلات للأطفال والصبية لزيارة اليوم الواحد للعاصمة الإدارية، في مشهد فاجر ومشهد ساخر، ومشاهد زائفة، وصور مزورة.
إنها حقيقة طمس الذاكرة وتزييفها حينما يقوم هذا النظام عن عمد مع سبق الإصرار والترصد بمطاردة كل أمر يتعلق بثورة يناير، أشخاصا أو أحداثا أو شعارات، ويسدل ستائر من الظلام والإظلام على كل ما يتعلق بهذه الثورة التي تمثل عزة مصر وشرفها، والتي تمثل شباب مصر الذين آمن بالتغيير وبعض من هؤلاء سقط شهيدا من أجل أمل التغير، ويحاول هذا النظام الانقلابي أن يصنع صورة زائفة لدولة أرادها السيسي، يدبج فيها كل أشكال الظلم وألوانه، ويجعل من ذلك ومن إفقار شعب مصر المتعمد تحملا يزهو به، يشكر عليه الشعب الذي يعمل هذا النظام على عبوديته واستعباده بكل ألوان طغيانه واستبداده، إنها عملية طمس الذاكرة وصناعة الصورة الزائفة.
ومن ثم فإن عملا عظيما يقوم على توثيق وتسجيل تلك الانتهاكات التي ترتكب في حق أهل مصر إنما تشكل عملا عظيما.. "نحن نسجل"، "نحن نوثق"، "نحن نثبت".. هذه الأمور جميعا إنما تشكل طاقة مهمة في تسجيل كل انتهاك بحق أهل مصر من اعتقال أو اختطاف قسري، أو تصفية جسدية خارج إطار القانون، أو قتل بطيء داخل السجون من خلال منع متعمد للتداوي والتطبيب من أمراض تمكنت من أجساد ضعفت، فتنوعت منها أمراض مزمنة وأمراض خبيثة تأتي مع الإهمال المتعمد والمتكرر، مع أخبار من هنا وهناك تخرج علينا كل حين باستشهاد أحد
المعتقلين في زنزانته.
عظيم هذا الجهد، "نحن نسجل"، حينما يصدر ويتصدر بتقرير عن النساء المعتقلات وعن بنات مصر في الأسر، وعن انتهاكات جسيمة بحق اللائي في السجون، لتشكل تلك حالات أحصاها ذلك التقرير لتتعدى الألفين، وتؤكد أن هذا النظام الفاجر لم يعد له من حد وليس له من سقف. إنه وببجاحة منقطعة النظير يمتهن الجميع.. الأطفال والشباب والشيوخ والرجال اليافعين، وحتى الرضع والأجنة، ويقع في قمة هؤلاء النساء.. يقوم بكل هذا بدم بارد مع ممارسات خطيرة وحقيرة لا يمكن وصفها إلا أن تكون انتهاكات لا أخلاقية؛ لم تشهد لها مصر مثيلا في أنظمة عبد الناصر أو السادات أو حتى مبارك المخلوع.
قام فريق "نحن نسجل" بتوثيق عدد النساء والبنات في مصر قيد الاعتقال حاليا، هو 127 سيدة، داخل السجون ومقرات الاحتجاز وأقسام الشرطة، وقتلت قوات الأمن 312 امرأة مصرية، سواء بالاستهداف المباشر قنصا، أو برصاص عشوائي أثناء مشاركتهن في تظاهرات، أو أثناء تغطية أحداث سياسية، أو سيرهن في الشوارع، وبالقصف الجوي والمدفعي العشوائي على الأحياء السكنية في محافظة شمال سيناء. واعتدت قوات الأمن على طالبات الثانوية العامة بالضرب والسب والقذف في أيار/ مايو 2019، وهددتهن أمام مبنى وزارة التربية والتعليم أثناء تنظيمهن وقفة احتجاجية اعتراضا على نظام التعليم بـ"التابلت". وتعرضت ما لا يقل عن 396 سيدة و16 طفلة للاختفاء القسري، ولا تزال 15 من السيدات على الأقل قيد الاختفاء حتى 15 تموز/ يوليو الماضي، و25 سيدة تمت إحالة قضاياهن إلى القضاء العسكري، و115 سيدة أحيلت قضاياهن إلى دوائر الإرهاب (دوائر استثنائية)، و17 سيدة صدرت بحقهن أحكام باتة ونهائية. وتعرضت 2761 سيدة داخل مقرات الاحتجاز المختلفة وأثناء القبض عليهن للتعذيب الجسدي والنفسي. وتم فصل ما لا يقل عن 530 طالبة من دراستهن الجامعية، و5 من عضوات هيئات التدريس الجامعية، كما صدرت قرارات بمصادرة ممتلكات ما لا يقل عن 100 سيدة، ومنع أكثر من 106 أخريات من السفر خارج البلاد. كما سُجلت إصابة 239 أنثى، بينهن 87 طفلة، بإصابات مختلفة جراء التعامل الأمني لمواجهة المظاهرات وفض الاعتصامات، ونتيجة العمليات العسكرية والأمنية التي تقوم بها قوات الجيش والشرطة في محافظة شمال سيناء.
هذا الجهد التوثيقي العظيم يدخل معركة الذاكرة من أوسع أبوابها، فلا نتذكر لهؤلاء الذين ارتكبوا بحق هذا الوطن خيانات فاضحة وفادحة، ولكن انتهاكات جسيمة وفاحشة، لتؤكد مرة أخرى أن شعار هذه الثورة (ثورة يناير) لم يكن شعارا عبثيا، ولكنه كان صرخة مدوية في وجه كل نظام استبد بمصر.. صرخة بمطالب العيش الكريم في مواجهة الإفقار الكبير، وبالكرامة الإنسانية في مواجهة انتهاك الحرمات، وبالحرية من ربقة أنظمة فاجرة لم يعد لها من صنعة إلا تشييد السجون وإيداع الآلاف من رجال ونساء مصر في السجون والمعتقلات، ليجعل ذلك النظام مصر التي وُصفت في أيام مجدها وعزها بالمحروسة؛ "مصر المحبوسة".
إن معركة الذاكرة هي أولى معارك التحرير والتنوير على طريق التحريك والتثوير.. أمور بعضها من بعض؛ تؤكد أن فتح هذا الملف الذي يرتبط بالمعتقلين واسعا بدأ من تسجيل وتوثيق المعلومة، وفضْح أفعال ذلك النظام الفاجر الفاشي ليس إلا حلقة من حلقات مقاومة ومواجهة هذا النظام الذي أراد أن يحبط الأمل ويشيع اليأس، ويرصد الأموال لبناء سجون المستقبل! من هنا تبدو قيمة هذا العمل الجبار وأعمال حقوقية أخرى مماثلة؛ يجب أن تجعل من استشهاد الرئيس مرسي بادرة لفتح ملف المعتقلين بأسره، وفضح انتهاكات وجرائم ذلك النظام الانقلابي.. "عمر الظلم ما قوم دولة".