إرث مظلم وغير مشرف سيبقى إلى الأبد يثير الغضب والوجع والصراخ المكتوم.
سيبقى جرحا نازفا لا يندمل، وآهات وحسرات تعتصر قلوب الأمهات اللواتي فقدن أبناءهن وأزواجهن في ساحة كانت ذات يوم رمزا للحرية والانعتاق من نظام فاسد ومفسد.
ست سنوات على مجرزتي "رابعة العدوية" و"النهضة" في مصر، ولا يزال الدم طريا ورائحته تملأ المكان، ومشاهد الجثث المحترقة لا زالت حاضرة، تبحث عن عدالة غائبة وسط صمت ومباركة عربية ودولية على وقع المصالح وصفقات السلاح.
لم تتم مساءلة أي مسؤول مصري بشأن ما حدث في ساحة الموت والخراب، وعلى العكس ما فتئ العسكر يرسلون الشبان المعتقلين بأعداد غير مسبوقة إلى حبل المشنقة.
ذكرى "محرقة رابعة والنهضة" أو "هولوكوست القاهرة" التي ذهب ضحيتها ما لا يقل عن 900 شخص، وجرح فيها أكثر من ألف شخص أثناء تفريق اعتصامات في ميدان "رابعة العدوية" و"النهضة" في القاهرة الكبرى، ضد الانقلاب العسكري على أول رئيس مدني منتخب في مصر محمد مرسي الذي رحل بالقتل البطيء والإهمال الطبي في سجون النظام.
أهالي الشهداء لم ولن ينسوا ثأرهم حين سقط أحباؤهم في أكبر عملية "إخلاء وحشي" بحسب وصف صحيفة "الموندو" الإسبانية.
ولم تقف المجزرة عند حدود الدم وإنما تواصلت حتى اللحظة الحالية بإعدام العشرات منذ عام 2013 في محاكمات جائرة وشكلية أقرب إلى مسرح اللامعقول، فيما ينتظر عشرات المعتقلين تنفيذ حكم الإعدام بهم.
كما صدرت أحكاما بالسجن تصل إلى 25 عاما ضد أكثر من 650 شخصا في ما يتعلق بمشاركتهم في اعتصام "رابعة" في أعقاب محاكمة جماعية بما فيهم متظاهرون وصحفيون وسياسيون ونواب ووزراء، حيث وجهت لهم اتهامات بالمشاركة في "احتجاجات غير مصرح بها" و"الانتماء إلى جماعة غير قانونية".
كما يمضي المعتقلون أيامهم ولياليهم في ظروف احتجاز غير إنسانية في سجون مصر، فضلا عن احتجاز كثير من المحكوم عليهم في الحبس الانفرادي لفترات طويلة تمتد إلى أشهر.
فيما يواجه أولئك الذين أُفرج عنهم بعد قضاء مدة عقوبة بالسجن لمدة خمس سنوات قيودا صارمة على حريتهم بسبب تدابير المراقبة القمعية والعقابية التي تنتهك حقوقهم في الحرية والعمل والتعليم والتجمع السلمي وتكوين الجمعيات، ويمكن أن تؤدي إلى انتهاكات أخرى بما في ذلك سوء المعاملة والعمل القسري والاستغلال.
كان من نتائج "رابعة" أن تحولت حياة معظم المصريين إلى أوضاع إنسانية وحقوقية صعبة بين اعتقالات شبه يومية لرجال ونساء على حد سواء بجانب الإخفاء القسري لعشرات المعتقلين، واتهامات سياسية وصفتها المنظمات الحقوقية بـ"المسيسة"، بأحكام قضائية يغلب عليها المؤبد والإعدام.
ويقبع نحو أكثر من 60 ألف معتقل سياسي في سجون الحكم العسكري منذ منتصف 2013، حسب تقرير "الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان".
ويطالب حقوقيون باعتبار مجزرة فض اعتصامي "رابعة والنهضة" جريمة إبادة جماعية على المستوى الدولي؛ فهي مجزرة متكاملة الأركان ويجب أن يتم محاسبة مرتكبيها دوليا، بحسب أكثر من رأي قانوني.
الكاتب، دافيد دي كيركباتريك في صحيفة "نيويورك تايمز" يقدم شهاداته لما جرى في "رابعة" يقول: "لم يتورع الجيش المصري عن سحق المعارضين لانقلابه، فأطلق النار على جموعهم في أكثر من مناسبة، ووصل الأمر إلى ذروته في الرابع عشر من آب/ أغسطس 2013 حينما قتل العسكر عدة مئات من الناس.
ولقد خلصت منظمة "هيومان رايتس واتش" إلى أن تلك كانت أكبر مذبحة تقع في يوم واحد في التاريخ المعاصر، حيث تجاوز عدد ضحاياها عدد من سقطوا في مجزرة ميدان "تيانانمان" في الصين عام 1989. ثم ما لبثت الشرطة المصرية أن وسعت دائرة القمع ليشمل الليبراليين المستقلين واليساريين والمدافعين عن حقوق المرأة وحتى المسيحيين".
في الدول الديمقراطية التي تحكمها سيادة القانون، من يرتكبون المجازر هم الذين يمثلون أمام القضاء ويحاكمون، أما في الوطن العربي وفي مصر، فإن الناجين من المجازر هم الذين يحاكمون، وفي بعض الحالات تصدر عليهم أحكام بالموت.
تقول صحيفة "الغارديان" البريطانية، في افتتاحية سابقة لها: "في الديمقراطيات التي تحكمها سيادة القانون، تكون المحاكمات عادلة وفورية، أما في مصر فيمكن أن يبقى الناجون من المذبحة رهن الاعتقال لخمسة أعوام قبل أن يقدموا للمحاكمة، ثم يحاكمون في مجموعات ضخمة، دون أن يكون لهم الحق في أن يدافعوا عن أنفسهم حسب الأصول".
يجب ألا يأمن المسؤولون عن عمليات القتل الجماعي في "رابعة " وفي غيرها على أنفسهم من المساءلة إلى الأبد، لن يفلتوا من المساءلة والحساب والعقاب جراء فعلتهم، فجريمتهم لا تسقط بالتقادم، بحسب منظمات حقوقية دولية.
وفيما يعمل النظام المصري على محو أحداث "رابعة العدوية" من الذاكرة المصرية بإعادة طلاء مسجد الميدان وترميمه بالكامل، فضلا عن وضع تمثال "تكريما" لقوات الجيش والشرطة، وبتقديم رواية مشوهة وزائفة لما يجرى في "رابعة"، أصبحت حركة رفع أربعة أصابع، باستثناء الإبهام، التي تعد دليلا على التضامن مع ضحايا المذبحة، أمرا محظورا، يعاقب عليه القانون بالسجن لمدة خمس سنوات.
ست سنوات مضت ولا يزال صوت أزيز الرصاص يحبس الأنفاس، فيما هدير الدبابات والجرافات التي حضرت لردم المكان فوق المعتصمين به، يعيد تكرار وتسجيل مشهد للفظاعة الإنسانية بأبشع صورها.
ما هو الإرث الذي سيتركه خلفهم من ارتكبوا المجزرة ومن أمروا بتنفيذها، وأين سينتهي بهم المطاف؟
لقد صنع الرئيس الشهيد محمد مرسي لنفسه إرثا عظيما تلخص في تعهده حتى نهاية حياته بأنه لن يعترف أبدا بالانقلاب العسكري الذي أطاح به وبقي يكرر أنه الرئيس الشرعي ورئيس جمهورية مصر العربية، هذا هو إرث مرسي "وهو إرث مهم" بحسب الكاتب والصحافي البريطاني ديفيد هيرست. فما هو إرث من قتلوا شهداء "رابعة" و"النهضة" واغتالوا مرسي؟
مجزرة "رابعة والنهضة" كانت إرث المصريين والوطنيين، إرث يرفض أن يموت إلى حين مثول القتلة أمام القضاء فيما يتدلون من رقابهم بحبل المشنقة التي شنقوا بها عشرات المصريين الأبرياء.