دع عنك ما روّج له إعلام نظام الأسد وتصريحات مسؤوليه؛ من أن السيطرة على
خان شيخون وريف حماة الشمالي هي هزيمة لتركيا ومشروعها السوري، فهذا النظام يجيد الكذب على الحقائق المكشوفة والساطعة، كما أن روسيا هي من تضع له خريطة طريق توجهاته وتحدّد له مساراته.
ودع عنك قصة
الرتل التركي الذي توجّه في الربع ساعة الأخيرة إلى خان شيخون، بعد أن سوّت الطائرات الروسية مبانيها بالأرض وجعلت صمود المقاومة فيها أمرا مستحيلا؛ بعد إطباق الحصار عليها وقطع طرق الإمداد.
لا يحتاج المراقب العادي
لمجريات الأحداث وسياقاتها لنباهة زائدة ليكتشف خيوط التوافق الروسي التركي على تسليم هذه المنطقة، كما أن الذاكرة السورية ما زالت تحتفظ بوقائع قريبة مشابهة حصلت بين الطرفين، جرى خلالها تبادل المواقع والأراضي بما يتفق مع مصالحهما، الميدانية والسياسية، وخاصة في حلب وأريافها.
ليس المقصود من ذلك محاكمة
تركيا على سلوكها السياسي تجاه الأحداث في
سوريا، كما لا يحق للسوريين تخوينها لأسباب عديدة:
- لأن تركيا تخوض مساومات وصراعات داخلية وخارجية، في بيئة تنافسية صراعية عدائية، ووضعها التفاوضي ليس جيدا بالمطلق؛ نتيجة ظروف موضوعية، ومن ثَمّ فإن خياراتها محدودة، وتضطر لقبول الخيارات الأقل سوءا.
- لأن لتركيا تصورات لتحقيق مصالحها لا تتطابق بالضرورة مع احتياجات السوريين في صراعهم مع نظام الأسد، ومن ثَمّ فهي تسعى لتحقيق تصوراتها التي تتفق مع متطلبات تحقيق الأمن القومي لها، دون النظر لمصالح المعارضين لنظام الأسد، وعلى السوريين الذين يتعاملون معها تكييف أوضاعهم مع هذه الحقيقة، أو فإن تركيا غير معنية برعايتهم ولا بدعمهم.
- وبالتبعية، فإن لتركيا أولويات تتناقض مع أولويات السوريين، ففي نهاية المطاف تستطيع تركيا التعايش مع نظام ضعيف يحكم سوريا بإدارة روسية، لكنها لا تستطيع التعايش مع ما تعدّه خطرا كرديا قد يؤثر بشكل مباشر في أمن أقاليمها الجنوبية.
- لدى تركيا
علاقات متشابكة مع روسيا، اقتصادية وتجارية وعسكرية، وهيئات وأطر لتنسيق هذه العلاقة، وليس من السهولة تعريض هذه العلاقات للخطر، وخاصة في ظل العقوبات الغربية والأوضاع الاقتصادية المتقلقلة. كما أن روسيا تتحوّل شيئا فشيئا إلى بديل لتوريد السلاح، في ظل احتمالات صراع تلوح في الأفق على الغاز في المتوسط، وانحياز الولايات المتحدة الأمريكية للطرف الآخر في هذا الصراع؛ اليونان وقبرص وإسرائيل.
على ضوء هذه المعطيات، تجد تركيا نفسها مضطرة لإدارة توازنات دقيقة في علاقاتها مع روسيا، وهذه الإدارة تقضم من مساحة دعمها لفصائل المعارضة؛ ليس لأنها الطرف الأضعف في معادلة الصراع السوري، بل لأن تركيا تملك في هذا المجال هامش مناورة لتقليل خسائرها المباشرة، فهي تدفع لروسيا من كيس المعارضة، مقابل الحصول على مزايا لتعزيز أمنها القومي.
هل يعني ذلك تأييد السياسات التركية تجاه المعارضة السورية والملف السوري بالإجمال؟ بالطبع لا؛ لأن تركيا تستخدم، بشكل مكشوف وعلني، هذه المعارضة كورقة للتفاوض على مصالحها، كما توظّف المعارضة السورية لرفع سقف مطالبها تجاه منافسيها، الروس والأمريكيين، لدرجة حوّلت معها هذه المعارضة إلى أداة لتحقيق المصالح التركية، وأبعدتها عن هدفها الأساسي، المتمثل في الصراع مع نظام الأسد من أجل تحقيق مطالب الشعب السوري في الحرية والكرامة.
لا شك في أن تركيا تستثمر حقيقة أن عشرات آلاف المبعدين إلى
إدلب، وعشرات الفصائل المقاتلة في إدلب، ليس لهم أي سند إقليمي سواها، وتستثمر في واقع أن أربعة ملايين لاجئ سوري يقيمون على أراضيها، ولا يمكنهم العودة إلى العيش في محرقة روسيا الأسد، وتجد أن من حقّها الحصول على عوائد وامتيازات مقابل التكاليف الهائلة التي تقدّمها. فالدول في النهاية ليست جمعيات خيرية، وعلى من يرفض هذا الواقع إيجاد بدائل وحلولا بعيدا عن المساعدات التركية.
لكن، ما العمل إذا كانت تركيا الساحة الخلفية الوحيدة للسوريين المعارضين، وهي الطريق الوحيد لإمدادهم بالدعم اللوجستي؟ وكيف التصرّف وكل الدنيا قد باعت قضية السوريين ورضخت للتصوّر الروسي للحل في سوريا، الذي يبقي الأسد حاكما متلسطا على الخراب؟ وهل ثمّة بدائل أخرى للخروج من هذا المأزق؛ مأزق التبعية للمصالح التركية أو القبول بالطرح الروسي الذي يعني بقاء عشر ملايين خارج سوريا، وقتل ملايين أخرى عبر الموت البطيء وبوسائل عديدة؟
من الصعب إيجاد إجابة وافية لهذه الأسئلة المعقدّة بحجم تعقيد الواقع السوري، لكن من الواضح أن السير بالركب التركي إلى نهاية المطاف سيجر خسائر أخرى كثيرة، وهذا يستدعي من العقول السورية البحث عن وسائل وطرق للمقاومة، لا يمكن حرفها وتجييرها لصالح تركيا أو أي طرف إقليمي أو دولي، حتى لو استدعى ذلك فرط الهياكل والأطر الحالية المسماة جيوشا وكتائب مقاتلة، طالما أن النتيجة النهائية تسليم نظام الأسد الأرض السورية، حتى لو بالتقسيط.