يقولون دائما إن البدايات يغلب عليها طابع السكرة التي تكون فيها رؤيا الحلم والخيال أكبر من رؤيا الواقع والحقيقة، وهذا صحيح.. إلا في الثورات؛ فحقيقتها وصدقها في بدايتها، وفي صرخة قلوب أبنائها وصدقهم، ولذلك كان وسيبقى القائد الحقيقي لكل الثورات هم أبناء الشعب الذين لم تتلوث قلوبهم بأحقاد أيديولوجية، ولم تتشوه أفكارهم بصراعات سياسية.
إن المحرك الأول والحقيقي لثورة مصر الحقيقية؛ ثورة 25 يناير التي مرضت وربما فقدت عافيتها، ولكنها في الحقيقة لم تمت بعد، ولذلك تحرك المئات مؤخراً في مشهد مؤثر وواضح برسالة لمن ينصت، خرجت مجلجلة وبصوت ذلك الشعب التي تتفطر قلوب أبنائه وهم يرون وطنهم ينحدر انحدار صخرة جرفها سيل من أعلى جبل. ولن أعدد أسباب هذا الانحدار؛ فمن له قلب يره وإلا فعميت عينه أكثر!
لكن.. يبقى ما بعد القلوب الطاهرة المخلصة، والصرخات الموجعة الصادقة واعتقال ما يقارب 2000 مصري بالإضافة إلى توقيف مجموعة متنوعة من اساتذة جامعات وليبراليين ومحامين ونشطاء.. يبقى أن نسأل أنفسنا ماذا بعد..؟ هل هي استعادة لعافية يناير من جديد، أم هي مشهد لخريف عابر، حدوده محسوبه للتعبير عن غضب عارم فحسب (مع إجلال قدره كما ذكرت)؟
لا بد أن نكون على بيّنة من أمرنا، وعلى علم بكل ما يدور في المشهد مكتملا؛ فليست الصورة أحادية متمثلة في ذلك الغضب من فشل إدارة واهدار للمال العام، ولا في فساد منظومة داخلية واهتراء ظاهر لمؤسسات وبنية الدولة المصرية، وسوء أحوال معيشية لشعب يعاني الأمرين، وتزداد معدلات فقره وتجويعه يومياً وبصورة غير مسبوقة..
إن الصورة يا سادة لها أبعاد أخرى أوسع، وصراعات دولية وإقليمية على نفوذ سياسي واقتصادي يطوق الحاضر والمستقبل، وأودى بالبلاد إلى حافة الهاوية، وجعلها ترزح تحت نير تبعية مهينة لتحالف الرز (مناشير الصحفيين)؛ تسببت في بيع أرض البلاد والتفريط في حقوقها الخارجية ومقدراتها وثرواتها، وأفقرت أهلها، وزرعت الفرقة والحقد بين أطياف أبنائها. إن كل مصري حر لهو مع التغيير والتحول الديمقراطي، والتخلص من قيود تلك التبعية وشرها الجاثم على صدر مصر والمصريين.
لكن.. علينا أن نكون قد تعلمنا الدرس جيدا من ثورة يناير وما مر بنا منذ بدايتها وحتى الآن، وعلينا أن نعي أن استكمالها لا بد أن يكون ناضجاً واعياً.
وإن كانت هذه فرصتنا لإحياء الأمل في التحول الديمقراطي؛ طريق الآلام والتضحيات والتي قد تطول، ولكنها لن تضيع سدى، وهي فرصتنا كذلك لندرك أننا لن ننخدع بسقوط هتلري ليأتي إلينا هتلر آخر.. وهي فرصة لندرك طبيعة الصراعات من خلفها، وهذا يحتاج منا أن يكون عقل كل محب لهذا الوطن وحريته؛ على قدر الوعي الذي حملته قلوب أبناء هذا الشعب من شبابه في صرخاتهم وأناتهم وتضحياتهم.
إن الثورات قادرة على الإطاحة بالظلم والطغيان بهتافات أبنائها المخلصين.. لكن لا بد أن ندرك أنها لن تكون قادرة على بناء مجتمع العدل والحق والحرية، ولن تكون كذلك قادرة على مواجهة المؤامرات التي حيكت وتحاك لها للالتفاف عليها؛ إلا بوعي سياسي حقيقي ورؤية وطنية ناضجة وشاملة.
ربما قد دقت ساعة الشعب، وهو قادر (وسيفعل) لكن.. هل دقت ساعة السياسيين والمفكريين والإعلاميين، وكل مصري مهموم بالشأن العام، ليكونوا على قدر المسؤولية؟!
كيف تستمر الموجة الثانية للثورة المصرية؟
بعد حراك 20 سبتمبر.. المشهد والسيسي إلى أين؟