نشرت صحيفة "إندبندنت" تقريرا لمراسلها في بيروت ريتشارد هول، يقول فيه إن مقتل جمال خاشقجي كان من المفترض أن يكون صامتا، فالمسؤولون السعوديون الذين كانوا وراء قتله الوحشي خططوا لكل شيء بدقة، وكان من المفترض أن يختفي دون أن يترك أثرا.
ويشير التقرير، الذي ترجمته "عربي21"، إلى أن القتلة كانوا يريدون ألا يزعج شيء طموحات زعيمهم الإصلاحية في السعودية، حيث كان ولي العهد الشاب محمد بن سلمان يحاول تحويل بلده، فقضى العامين الماضيين يتودد إلى المجتمع الدولي، كجزء من خطته الكبرى لتحديث المملكة وجذب الاستثمارات الأجنبية، ولم يمنح السعوديين أي حريات، لكنه قمع المعارضة أكثر من أي وقت مضى.
ويلفت هول إلى أن السعودية أنفقت مئات ملايين الدولارات للترويج لولي العهد وإصلاحاته، ومن خلال حملة علاقات عامة عالمية تم التقرب إلى زعماء ونجوم العالم.
وتقول الصحيفة: "بدا أن الخطة في طريقها للنجاح، حتى اختفى خاشقجي، فعندما تكشف أن صحافيا معارضا تم قتله داخل القنصلية السعودية، غالبا بالنيابة عن ولي العهد، تحطمت تلك الصورة، ووجد ولي العهد نفسه في وسط فضيحة عالمية تهدد بإفساد خططه كلها، وواجه جيش من شركات العلاقات العامة مهمة مستحيلة: إنقاذ صورة الرجل الذي يعده الكثيرون قاتلا وحشيا، وبعد مقتل خاشقجي بعام ربما يكونون قد توصلوا إلى ذلك".
ويجد التقرير أن تداعيات مقتل خاشقجي لم تكن متوقعة، لكن شبكة العلاقات العامة لولي العهد كانت في حالة استعداد للحرب عندما وقعت الفضيحة، مشيرا إلى أن وزارة الاعلام السعودية قد أعلنت قبل ذلك بعام عن حملة عالمية "للترويج لوجه السعودية المتغير في بقية أنحاء العالم".
وينوه الكاتب إلى أن هذه الشبكة من العاملين في الضغط السياسي وخبراء العلاقات العامة تعمل عملا حثيثا لمواجهة التغطية الصحافية السلبية لحرب السعودية في اليمن وحصارها لقطر، لكن معظم تلك الشبكة كان يعمل للترويج لولي العهد.
وتذكر الصحيفة أن ولي العهد قام في أوائل عام 2018، بزيارة وجولة في الولايات المتحدة، رافقتها تغطية إعلامية واسعة بعد أن تسلم زعامة السعودية الفعلية من والده، واجتمع بالرئيس دونالد ترامب وجيف بيزوس وبيل غيتس ونجوم هوليوود وممولي وول ستريت وأوبرا وينفري وغيرهم، وظهر على برنامج الأخبار الرئيسي "60 دقيقة"، في مقابلة مباشرة، وحظي ببعض المديح من كتاب العمود في صحيفة "نيويورك تايمز".
ويفيد التقرير بأن تلك الرحلة أتبعت برحلة شبيهة إلى لندن، حيث قامت شركات العلاقات العامة في الصحف بحجز صفحات كاملة لتلك الإعلانات، بالإضافة إلى لافتات ضخمة على الشوارع الرئيسية في لندن للإعلان عن الزيارة، وقال مطلعون داخل صناعة الإعلانات بأن تكاليف الحملة قد تصل إلى مليون جنيه إسترليني.
وينقل هول عن أستاذ الإعلام والاتصالات في جامعة إيست لندن، جوناثون هاردي، قوله إن الانفاق كان على نطاق واسع، حيث "كانت هناك زيادة في التمويل خلال شبكة شركات علاقات عامة، وضغط سياسي مكثف، عمل لصالح الحكومة السعودية ومصالحها الاستراتيجية".
وتكشف الصحيفة عن أن السعودية أنفقت في عام 2018 أكثر من 34 مليون دولار على الضغط السياسي في أمريكا وحدها، بحسب مركز (ريسبونسيف بوليتيكس)، واستعملت المملكة مجموعة من الشركات في لندن، بما في ذلك شركة "كونسالام"، التي تشغل موظفين سابقين في شركتي "بيل بوتينغر" و"فرويدز".
ويورد التقرير نقلا عن البروفيسور هاردي، قوله إن الهدف هو "لعكس صورة عن المملكة العربية السعودية بأنها تسير بخطوات سريعة نحو الإصلاح، ومحو سلبيات الحكومة للتقليل من الضغط السياسي الدولي، وجذب الاستثمارات لتحقيق النمو الاقتصادي، وفتح المجال للسياحة الأجنبية".
ويستدرك الكاتب بأنه لم يكن الجميع مقتنعا، فرأى الكثيرون أن ذلك ليس سوى عملية علاقات عامة، بمن فيهم خاشقجي نفسه، وتتذكر مستشارة العلاقات العامة نيكيتا برناردي، التي تعمل على حالات حقوق الإنسان في الشرق الأوسط، أنها ناقشت خطة ولي العهد مع خاشقجي.
وتنقل الصحيفة عن برناردي، قولها: "لقد قمنا بهذا الحوار قبل أيام من مقتله.. فقبل عام تقريبا كنت في واشنطن أنظم مؤتمرا، هدفه مناقشة هذا الوجة الجديد للسعودية الذي كانوا يحاولون تسويقه، وكان جمال خاشقجي أحد المتحدثين".
وأضافت: "لقد كانت حملة العلاقات سطحية للغاية، وكانت مصممة للدول الغربية التي كانت بحاجة لأن يظهر بمظهر أكثر قبولا ليستطيعوا الاستمرار في بيع الأسلحة (للسعودية) وغير ذلك، وكانوا بحاجة لأن يبدو بأنه يغير الأمور في الاتجاه الصحيح".
ويشير التقرير إلى أنه في الوقت الذي كان يقوم فيه خاشقجي بالإعراب عن شكوكه حول ما إذا كان ولي العهد مصلحا حقيقيا -سرا وعلانية- فإن كبار المستشارين الملكيين كانوا يخططون لقتل الصحافي، لافتا إلى أن خاشقجي اختفى في 2 تشرين الأول/ أكتوبر بعد دخوله إلى القنصلية السعودية في إسطنبول، حيث ذهب هناك للحصول على أوراق ليستطيع الزواج من خطيبته التركية التي كانت تنتظره في الخارج، ولم ير بعدها أبدا.
ويفيد هول بأن السعودية أصرت ابتداء أن خاشقجي غادر القنصلية، لكن بعد سلسلة من التسريبات من المحققين الأتراك، غيرت القصة، وقالت إن الصحافي البالغ من العمر 59 عاما قتل هناك في "اشتباك بالأيدي"، وقال المحققون الأتراك والدوليون بأن خاشقجي قتل داخل القنصلية وتم التخلص من جثمانه، وقالت مقررة الأمم المتحدة الخاصة، أغنيس كالامارد، بأن العملية كانت جريمة قتل "خطط لها وقام بها مسؤولون سعوديون".
وتستدرك الصحيفة بأن خط الأدلة يقود إلى ولي العهد نفسه، حيث تعتقد وكالة الاستخبارات المركزية وبعض الدول الغربية بأن ولي العهد أمر بالقتل، وهو الأمر الذي استمر في إنكاره.
ويجد التقرير أنه في محاولاته لإسكات خاشقجي كان لقتله مفعول عكسي، فأدى اختفاء الصحافي إلى عاصفة نارية أحاطت بولي العهد، ووصف دونالد ترامب محاولة السعودية إنكار قتل الصحافي بأنها "أسوأ عملية تغطية في التاريخ"، مشيرا إلى أن قتل الصحافي تسبب بحرف جهود ولي العهد لإعادة إنتاج الماركة، ففي الأسابيع التي اتبعت عملية القتل واتهام ولي العهد بالتورط المباشر في الجريمة، قامت العديد من الشركات والزعماء بالنأي بأنفسهم عن المملكة، فأعلنت شركتا "فرويدز" و"بيجفيلك غلوبال كاونسيل"، بأنهما لا تعملان مع السعودية، بالإضافة إلى شركة "ميلتاون بارتنرز"، التي كان يديرها مدير الاتصالات السابق للأمير تشارلز.
ويقول الكاتب إن مجلة "بي آر ويك" أعلنت بأن شركات "غلادستون بليس بارتنرز" و"غلوفر بارك غروب" و"بي جي آر" و"بورتلاند كميونيكيشنز" و"غيبسون" و"دان أند كراتشر" كلها أنهت عملها مع الحكومة السعودية.
وتبين الصحيفة أنه مع أن الحكومة خسرت الكثير من قوتها في العلاقات العامة، فإن الشركات التي بقيت معها "ضاعفت من جهودها"، بحسب ما قال بين فريمان، الذي يتابع النفوذ الأجنبي لمركز السياسات الدولي، لصحيفة "واشنطن بوست".
ويلفت التقرير إلى أن تلك الشركات تضمنت "كورفيز كوميونيكيشين"، وهي شركة أمريكية متخصصة في اتصالات الأزمات، وشركتها الأم، "أم أس أل"، التي عملت مع الحكومة السعودية لأكثر من عقدين، وبحسب "واشنطن بوست"، فإن "أم أس أل" قبضت 18 مليون دولار من السعودية منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2018.
ويفيد هول بأن الحكومة السعودية وقعت عقدا جديدا يكلف 120 ألف دولار في الشهر مع شركة "كارف كوميونيكيشنز"، في وقت سابق من هذا العام، بحسب صحيفة "فايننشال تايمز"، من أجل "تحسين السمعة والصورة" لصندوق الاستثمار العام السعودي، الذي يرأسه ولي العهد.
وتورد الصحيفة نقلا عن البروفيسور هاردي، قوله إن استراتيجية شركات العلاقات العامة تغيرت بسبب الشكوك حول علاقة ولي العهد بجريمة القتل، فتم استبدال التركيز على شخص ولي العهد إلى الإقناع المستهدف، وأضاف: "قامت السعودية بإرسال مبعوثين كبار لإقناع الشخصيات الرئيسية في الإعلام والسياسة والتجارة بصدق التحقيق في مقتل (خاشقجي)، وللقيام بعمل بطيء وخفي لتثبيت وإعادة بناء الثقة".
وتابع هاردي قائلا: "نرى حاليا جهودا متعددة المسارات، وتستثمر السعودية في تأثير القوة الناعمة مثل الرياضة والسياحة، وهي جهود للتأثير على التصورات العالمية من خلال أشياء مثل مستوى الاستثمار في الرياضة، التي أدت إلى اتهام السعودية بالغسيل الرياضي".
ويشير البروفيسور هاردي إلى مباراة الملاكمة القادمة بين أنثوني جوشوا وأندي رويز لبطولة العالم في ملاكمة الوزن الثقيل، التي ستعقد في المملكة.
وينوه التقرير إلى أن الحكومة السعودية أعلنت قبل ذكرى مقتل خاشقجي بأيام، عن برنامج تأشيرات سياحية للسعودية يشمل 49 بلدا، مشيرا إلى أنه بعد عام من مقتل خاشقجي عاد ولي العهد إلى الأضواء، فظهر يوم السبت على برنامج 60 دقيقة مرة أخرى، في مقابلة أنكر فيها أي علاقة شخصية له في جريمة القتل، وقال ولي العهد: "إنها جريمة نكراء.. وأتحمل مسؤوليتها كاملة بصفتي زعيما للسعودية، خاصة أنها ارتكبت من أشخاص يعملون مع الحكومة السعودية"، وأضاف: "أتحمل المسؤولية كلها.. لأنها حصلت في فترة حكمي".
وينقل الكاتب عن مستشارة العلاقات العامة برناردي، قولها إن المقابلة تشكل تحولا إلى استراتيجية جديدة، وأضافت: "لم يكن بالإمكان فعل الكثير لحماية سمعته (ولي العهد) فقد كانت الأضرار بليغة، ويمكنك مشاهدة كيف تغيرت الرواية السعودية خلال عام منذ مقتل جمال، فكانت في البداية إنكارا وإنكارا وإنكارا، ثم قالوا إنهم أعضاء مارقون، والآن نرى ولي العهد يقول (حصلت في فترة حكمي)".
وأضافت برناردي: "فبالنسبة لي فإن تلك عبارة عن علاقات عامة، ويبدو أنه تم التفكير فيها والتدرب عليها جيدا، وهي لا تزيد على كونها كلمات جوفاء، فعن ماذا تتحمل المسؤولية؟ لا شيء أبدا".
وتذكر الصحيفة أن المعارض يحيى عسيري يرى أن محمد بن سلمان استخدم شبكة واسعة من التكتيكات لتحسين صورته في ضوء الجريمة، بما في ذلك حملات علاقات باهظة الثمن، وخبطات إعلامية، وإصلاحات اجتماعية متواضعة.
وتختم "إندبندنت" تقريرها بالإشارة إلى قول عسيري، وهو مدير منظمة القسط الحقوقية، إن هذه الجهود لم تنجح بسبب سجل حقوق الإنسان الفقير في المملكة، واستمرار اعتقال الناشطات السعوديات، وغياب المحاسبة لقتلة خاشقجي.
لقراءة النص الأصلي اضغط (هنا)
منال الشريف: المنفيون السعوديون يقاومون ومقتل جمال ترك ثغرة
الغارديان: موقف بريطانيا تجاه السعودية خيانة لذكرى خاشقجي
فرونت لاين: هكذا أقرّ ابن سلمان بمسؤوليته عن قتل خاشقجي