الدولةُ أرضٌ وشعبٌ وسيادةٌ، عَدلٌ وقيمٌ وقيادة.. تُقيمُها وتحميها مؤسساتٌ راسخة قادرة فاعلة ومتكاملة، يحدّد قوامَها ومهامها وصلاحياتها ومسؤولياتها وواجباتها دستورٌ يحكُمها وتَحْكُم وفق أحكامه وروحه، وتعمل من خلاله ومن خلال القوانين والأنظمة لتؤديَ مهامها، وتقوم بواجباتها، وتنظّم شؤنها وعلاقاتها. وذلك يحميها ويحمي من جورها وشططها أيضاً حيث يكون ضبط وربط وحكمٌ واحتكام.
الدساتير والسلوك
إن معظم الدول تأخذ بمبدأ فصل السلطات "التشريعية والتنفيذية والقضائية"، وتنص على ذلك في دساتيرها وتتضمنها تفاصيل عن ذلك لأهميته وتتوسع في تبيان ذلك.. وتضع مؤسسة الرئاسة رأساً للسلطات لا بديلاً لها، وتضع الجيش المكلَّف بحماية البلاد والحدود والدولة، بإمرة الرئاسة وفق أحكام الدستور، ولا تقيمه مؤسسة مستقلة.
وفي معظم التشريعات العليا "الدساتير" نجد أحكاماً ونصوصاً ضافية شافية ودقيقة، تحدّد المَهام والصلاحيات والإجراءات الواجب اتخاذها عندما تحدث تجاوزات أو تجري ممارسات من شأنها المس بالنصوص والأحكام وروح القانون، ونجد ما يطمئن الإنسان فيما يتعلق بحماية الوطن وسلطة الشعب وبحقوق المواطن وحرياته وكرامته وأمنه، وبغير ذلك من ضرورات الحياة.
يظل مبدأ تداول السلطة في الدولة، بدستورية وأمن، أملاً ومطلباً يستحق أن يقاتل من أجله الشعب، لأنه يضمن بقاء الدولة مُعافاة.
لكن التجربة في كثير من بلدان العالم وفي أكثر أقطار وطننا
العربي، تشير إلى أن هوة كبيرة بين الأحكام والأفعال والأقوال، بين النص والتطبيق، بين المَعلوم والمكتوم.. فقراءة النصوص وسماع الخطابات شيء ومقاربة الواقع المعيش شيء آخر تماماً. فأي معنى يبقى لفصل السلطات وللمؤسسات في أية
دولة إذا ما تمددت فيها سلطة على حساب سلطات، ومؤسسة على حساب مؤسسات، في خرق واضح للدستور وتجاوز للقوانين، فأصبحت هي اللُّب وأحالت غيرها إلى قشور.؟! وأي ضمان يبقى للإنسان في وطن ودولة إذا هُدِرَت كرامته وضاعت حقوقه وانتهكت حرياته الدستورية وتزعزع أمنه واستقراره وأمن وطنه، واستبيحت حياته وأهدِرَ دمه؟! من المؤكد أنه لا يكفيه أن يعتز بالشكل "النَّص" مع فقدان المضمون؟!
في هذه الحالات، وما أكثرها، يسود منطق الغالب المُتغلِّب ويعلو شأن نهجه وأساليبه ووسائله وأدواته، فهو مالك القوة وسيد الاستقطاب ومفعِّل الإفساد.. وفي هذه الحالات تقام تجارة مفتوحة بالكل ويُستباح الكل.. وتحكُم "سلطةٌ" كلَّ السلطات، بتضليل وإغواءٍ وإغراءٍ وإقصاء، ويسود "منطق تشويه المنطق"، ويقهر مَن لا يملك قوة.. رغم وجود دستور ممتاز وقوانين جيدة.. إذ أنها وسواها "بئرٌ مُعَطَّلَة وقَصرٌ مشيد".
وفي هذه الحالات ينهض سؤال مُقلق: إذا كانت التشريعات والقوانين صالحة ومن يناط به تنفيذها فاسداً مفسداً، وكانت بيئة الحكم لا تحمي التشريع ولا تُراعي حسن التنفيذ، فمَن الذي يحمي التشريعات والمؤسسات والدولة من التهافت؟!
لقد شاع في السياسة مبدأٌ حاكمٌ يقدِّمها مُضادة للأخلاق والقيم، فهي حسب رجالها وسوقها وميادينها ومفاهيم سدنتها "مصالح ولا تحكمها أخلاق ولا قيم ولا مبادئ"، والبراغماتية منها تلغي المبدئية، وطغاتُها يستبيحون الشعوب والدول.. فنحن إذن في الغابة، أمام مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة"، وأمام ميكيافيلّيين يشهرون سيوفهم فوق الرقاب من دون رادع أو حساب أو عقاب..
التغيير السياسي في العالم العربي
والظاهرة المُقلقة في أكثر دول وطننا العربي، وعلى مدار عقود وعقود من الزمن، أن الحاكم دولة، والانقلاب أو الثورات الشعبية الدامية إحدى أهم الوسائل لتغيير حاكم أو حكومة، والسلطة التنفيذية تبتلع السلطتين التشريعية والقضائية بصورة ما وعلى نحو ما، وتبتلع حقوق المواطنين والمواطنين أنفسهم.. والدستور حبر على ورق يعطله الحاكم أو تعطله القوة "الجيش" بصورة ما.. والتغيير إن تم فلا يتم بالتداول الدستوري الآمن العادل للحاكم وإنما بالقتل أو السجن أو النفي.. ومعظم الأحكام والقرارات المتعلقة بتداول السلطة أو بموقف الحكومات من المعارضات وموقف المعارضات من الحكومات، ولا يحكمها الدستور والقانون والخُلُق القويم والمصلحة العليا للوطن والشعب، ولا روح المُواطنة وحكم العدالة "والعدل أساس الحكم وسبب دوامه"، وإنما تحكمها اعتبارات مريضة ومواقف ورؤى ضيقة، وتدخلات خارجية، وقرارات ومحاصصات ومماحكات ونزوات وأحقاد سياسية مدمرة، مصدرها أفراد نافذون أو أحزاب تحكم أو تتطلع للحكم، أو فئات ومجموعات تتسلط على الحكم والدولة والشعب فتفرض منظورها ومصالحها وأهدافها وتعمل ما ينفعها ويبقيها، من دون أدنى اعتبار للشعب والدولة والمؤسسات والتشريعات، إذ أنه، من منظورها وموقعها ومصلحتها، أنها الدولة..
شاع في السياسة مبدأٌ حاكمٌ يقدِّمها مُضادة للأخلاق والقيم، فهي حسب رجالها وسوقها وميادينها ومفاهيم سدنتها "مصالح ولا تحكمها أخلاق ولا قيم ولا مبادئ"،
في هذا المناخ يبدأ فساد الدولة وإفسادها، ويحكم طغاة بواجهات دستورية وقانونية شكلية، وتنشر الدكتاتورية راياتها ومنصات لكلام ألغام، وتُصاب الدولة بالأدواء..
والدولة حصن الشعب الذي يقيمه ويحرص على سلامته ليحتمي به ويستقر في ظلاله ويعيش ويعمل ويأمل.. فكيف يمكن أن يحمي مقره ومستقره ومُسْتَنْبَت أجياله ويكون مصدراً للسلطات وقد انتزعَت منه السلطات وفسدت بيئة الحكم وفسد المناخ ومرِضَت الدولة؟! إنه لا يستطيع فعل شيء، فليس بيده مفاتيح الحصن "الدول"، وليس بيده أن يحمي نفسه ويحميها. وسؤال الأسئلة: هل الشعب هو المالك الآمر الناهي في الدولة.. أم أن مَن يعبثون به ويفعلون به الأفاعيل حينما تُسد أمامه السبل وتضيق به الأحوال ويتحرك ليغير، هم الذين يخطفون منه الدولة ويدفعونه ثمن التغيير دماً ومعاناة؟!
ومع ذلك يظل مبدأ تداول السلطة في الدولة، بدستورية وأمن، أملاً ومطلباً يستحق أن يقاتل من أجله الشعب، لأنه يضمن بقاء الدولة مُعافاة.
واللهُ المُستعان.