شكّل انتخاب الأستاذ قيس سعيّد رئيسا للجمهورية التونسية استعادة حقيقية للنفس الثوري الذي أطاح بنظام المخلوع بن علي في تونس. بل إن كامل الدول التي غطاها الربيع العربي تعيش اليوم وضعا شبيها بالوضع الذي أعقب الانفجار الكبير في أواخر سنة 2010 مما يسمح بالقول إنّ المنطقة تستعيد حالتها الثورية الأولى.
تونسيا تمثل التجربة نموذجا فريدا في كامل البلاد العربية ليس فقط بكونها مركز الفعل الثوري ومنطلقه بل لأنها أفلتت من المنوالات الانقلابية التي قادتها الثورة المضادة محليا وإقليميا ودوليا، كما عبَرت التجربة بنجاح فوق كل العواصف التي خلقتها الدولة العميقة طوال قرابة عقد من الزمان.
لكن رغم كل النجاحات فإنه لا يمكن الاستسلام إلى سحْر اللحظة المغرية أو الاطمئنان إلى نشوة الانتصار الانتخابي لأن الدولة العميقة لم تسلّم سلاحها بعد كما أن القوى الإقليمية الداعمة للانقلابات لم تتراجع بعد عن مشاريعها في المغرب العربي وشمال إفريقيا.
ماذا حدث في تونس؟
لماذا تراجع الإسلاميون في التشريعيات وخسروا الانتخابات الرئاسية؟ لماذا اختفت أحزاب كانت تسيطر على المشهد السياسي مثل حزب نداء تونس أو حزب التكتل؟ لماذا خسر الرئيس السابق ورئيس الحكومة ورئيس البرلمان الانتخابات الرئاسية؟ لماذا فاز قيس السعيّد وهو الذي لا يملك حزبا ولا أيديولوجيا ولا حزاما سياسيا؟ كيف تقدمت أحزاب جديدة مثل ائتلاف الكرامة؟ وكيف عادت التيارات المتلحفة بالفكرة القومية إلى المشهد؟ ما الذي حدث؟
الأسئلة كثيرة وتحتاج فضاء تحليليا أرحب من هذا الفضاء لكننا سنختصرها في كلمتين: "الكتلة الثورية". الكتلة الثورية هي الحركة التي انطلقت من سيدي بوزيد يوم 17 كانون أول (ديسمبر) 2010 ثم اكتسحت كامل البلاد لتطيح ببن علي قبل أن تستقر في شكل حالة ثورية ووعي ثوري جديد يرفض العودة إلى ما قبل الانفجار الكبير.
يبقى الشارع التونسي الذي كان منطلق الثورة الضامن الوحيد لاستمرارية الخط الثوري وهو القادر على تعديل المشهد شرط أن يبقى المسار الانتخابي قائما.
لكن الكتلة الثورية لم تكن تملك نخبها الخاصة بها وهو أحد أسرار نجاح الثورة لأن النظام المحلي والإقليمي والدولي كان عاجزا عن تحديد الجهة التي تقف وراء هذه الحركة لكي يحاربها. هذه الخاصية كانت فاعلا ذا حدّين لأنها من ناحية أولى مكنت من إنجاح الثورة وسهّلت إفلاتها من براثن النظام العالمي لكنها من ناحية أخرى سمحت للمتسلقين من خارج الكتلة الثورية بركوب الموجة وهو ما حدث في تونس خلال السنوات التسع الماضية.
لا نقصد بالمتسلقين هذا الطرف أو ذلك بل نقصد به كل من حكموا تونس منذ الثورة وهم المحسوبون على التيار الثوري أو هم يتكلمون باسمه وهو يشمل حركة "النهضة" وحزب التكتل وحزب المؤتمر بشكل خاص لأن أحزاب الدولة العميقة مثل حزب نداء تونس لم تحكم باسم الثورة بل تحت شعارات ومسميات أخرى.
فلا حركة "النهضة" الإسلامية ولا بقية الأحزاب المحسوبة على الثورة نجحت في تحقيق الحدّ الأدنى من المطالب الثورية بل الأدهى من ذلك أنها تحالفت مع النظام القديم وساعدت على عودته إلى المشهد عن علم أو عن غفلة.
كان الدرس قاسيا لحركة "النهضة" التي تلقت صفعة تاريخية أطاحت بخزانها الانتخابي بعد أن تراجع إلى أقل من الربع إثر سنوات من ممارسة السلطة كما أن استبداد قياداتها بالرأي وسيطرتهم المطلقة على دواليب الحركة وفساد بعضهم تسبب للتنظيم بخسائر فادحة. هذا الوضع الجديد هو الذي يفسر سعي "النهضة" إلى تبني منطق الثورة اليوم واستبطان الخطاب الثوري ومحاولة العودة إلى المربع الأول الذي تنكرت له طوال السنوات الفارطة باسم التوافق.
الكتلة الثورية والدولة العميقة
إذا كان انتخاب السيد قيس سعيّد يُعدّ مفاجأة فذلك لأننا لم نكن نملك الآليات القادرة على التفسير والتوقّع. لكن بمنطق الكتلة الثورية فإنّ أحدا من المرشحين لم يكن قادرا على بلوغ قصر قرطاج مثل الأستاذ سعيّد لسبب بسيط وهو أن أغلب منافسيه كانوا أضعف منه تمثيلا للخط الثوري. أقصى الامتحان الانتخابي كل من مارس السلطة من قبل بما فيهم وزير الدفاع ورئيس الحكومة ورئيس البرلمان ورئيس سابق بشكل عُدّ رسالة إقصاء لمرحلة خيبت آمال الشعب وخانت شعارات ثورته.
أما التيار الثوري فقد انتعش بشكل واضح سواء من خلال الانتخابات الرئاسية أو التشريعية لكنه رغم ذلك يبقى غير قادر على مواجهة الدولة العميقة من ناحية أولى أو الحدّ من سطوة التيارات والكتل المحسوبة على الثورة أو تلك التي تحكم باسمها ومنها حركة "النهضة" الإسلامية التي ترى في التيار الثوري منافسا لها على ما تعتبره هي شرعية نضالية تاريخية تخصّها بشكل يكاد يكون حصريا.
لا تزال الدولة العميقة حاضرة في المشهد التونسي من خلال مفاصل الدولة والمناصب الحساسة التي حافظت عليها منذ فترة الوكيل الاستعماري الأول بورقيبة والوكيل الاستعماري الثاني بن علي
لكن رغم ذلك لا يزال الفاعل الثوري في تونس متحرّرا من أي مرجعية ثابتة بل تعبّر عنه القواعد الجماهيرية العريضة مثلما هو الحال في الانتخابات الأخيرة دون أن يستأثر به مكوّن دون آخر. هذا الوضع يجعله مرشحا لخوض جولات جديدة من المواجهات القادمة مع أذرع الثورة المضادة.
لا تزال الدولة العميقة حاضرة في المشهد التونسي من خلال مفاصل الدولة والمناصب الحساسة التي حافظت عليها منذ فترة الوكيل الاستعماري الأول بورقيبة والوكيل الاستعماري الثاني بن علي، حيث تسيطر على الاقتصاد عائلات بعينها تمتلك الثروة والقرار وتتحكم بشكل يكاد يكون كليا في الدولة والاقتصاد وفي قطاعات الفلاحة والسياحة والتجارة والخدمات خاصة.
هاته العائلات شبيهة بعائلات المافيا الايطالية تتجمع في شكل كتل ضاغطة عبر الإعلام وعبر قنوات التأثير الداخلية والخارجية. لكنها لا تشكل وحدها الخطر الذي يهدد المسار الثوري الجديد لأنها لا تزال مدعومة بقوى مؤثرة مثل النقابات العمالية التي شكلت أكبر تهديد للمسار الانتقالي منذ 2011 عبر آلاف الاضرابات والاعتصامات التي نظمتها مستهدفة الاقتصاد والسلم الاجتماعي.
لن تكون مهمة الجسم السياسي سهلة بالمرّة أمام تكتّل القوى المعادية للثورة وتحالف اليسار المكسور مع قوى النظام القديم والقوى النقابية بشكل قد يهدد المسار الانتقالي برمته وليس توحش الخطاب الإعلامي في المدّة الأخيرة إلا خير مؤشر على الموجة الصدامية القادمة.
يبقى الشارع التونسي الذي كان منطلق الثورة الضامن الوحيد لاستمرارية الخط الثوري وهو القادر على تعديل المشهد شرط أن يبقى المسار الانتخابي قائما. إن جوهر المكسب الثوري في تونس اليوم هو العملية الانتخابية نفسها التي ستكون قادرة مع الزمن على فرز الكتلة الأكثر قدرة على تحقيق أهداف الثورة مهما تغيرت مكونات المشهد السياسي.