توماس مور
انتشرت في عصر النهضة
ظاهرة كتب مرآة الأمراء أو نصح الأمراء بهدف تقديم نصائح للأمير تساعده على سلوك
المسلك الصحيح في الحكم.
ولم يخرج عن هذه
القاعدة حتى مكيافيلي نفسه في كتابه الأمير، وإن كانت نصائحه في اتجاه ثان مختلف
تماما.
بخلاف منهج النصح هذا،
سلك السير توماس مور (1478- 1535) مسلكا مختلفا، فقد توصل إلى قناعة أنه لا يمكن
تقديم النصح للمستبد، وإذا ما حاول أحد أن يفعل ذلك، فسيجد نفسه منفيا.
هذه النتيجة لم تكن
مبنية على استنتاجات نظرية، وإنما مبنية على استقراء عملي وتجربة سياسية مريرة أدت
به في النهاية إلى الإعدام.
كان مور محاميا ومؤلفا
وعالما وقائدا سياسيا في الوقت نفسه، عُين نائبا لعمدة لندن بين عامي 1510 و1518،
وسكرتيرا ومستشارا للملك هنري الثامن عام 1517، وانتخب ناطقا باسم مجلس العموم عام
1523، ووزيرا للعدل عام 1529 قبل أن يقدم استقالته بعد ذلك بثلاث سنوات بسبب رفضه لطلاق الملك من الملكة كاترين، ورفضه قانون السيادة، وفي عام 1534 اتهم بالخيانة
العظمى، فسجن في برج لندن إلى أن قطع رأسه في العام التالي.
في عام 1530 بدأت
الخلافات تدب بين البابا كليمنت السابع والملك هنري الثامن، بسبب طلب الأخير
مباركة الكنيسة لتطليقه من زوجته كاثرين وتزويجه من أرملة أخيه آن
بولين.
كان موقف مور مؤيدا
لتمسُّك الكنيسة بأن يكون الزواج الكنسي مطابقا لتعاليم الإنجيل، فرفض التوقيع مع
مجموعة من مستشاري الملك على خطاب للبابا يؤيدون فيه رغبة الملك في التطليق
والزواج الثاني.
قام الملك هنري الثامن
بعزل كل أعضاء الإكليروس الذين يؤيدون موقف الكنيسة في روما ضد الطلاق والزواج
الثاني، واعتقل أي سياسي ورجل قانون يؤيد موقف الكنيسة الذي هو ضد رغبة الملك.
اقرأ أيضا: المدن الفاضلة: أربعة تواريخ مختلفة (3-4)
رفض مور علانية أن
يتخذ موقفا مخالفا لإيمانه حتى وإن كانت ضريبة ذلك هي العقوبة، فلم يحضر حفل زفاف
الملك على آن بولين، كما أنه لم يحضر تتويج الأخيرة بلقب "ملكة إنجلترا" رغم
توجيه الدعوة له بالحضور.
وفي البرلمان رفض حلف
القسم الذي يعطي سُلطة روحية للتاج البريطاني على الكنيسة في إنجلترا.
اليوتوبيا
كان مور مرهف الأحاسيس
لدرجة أنه مارس التقشف على نفسه رغم وضعه المالي الميسور، وكان يتأذى نفسيا من
مشاهدة البؤس المتنامي في زمانه: سرقات، جرائم، عصابات.
ركز مور على فئتين
اجتماعيتين كبيرتين اتهمهما بتدمير الدولة بسبب سعيهما القوي وراء مصالحهما الخاصة
على حساب المصلحة العامة، وهما: النبلاء الذين يسرفون بشكل أناني، والإقطاعيون
الذين تركوا الزراعة وتوجهوا نحو تربية الخراف، فيما عرف آنذاك في إنكلترا بعصر
التسييج.
يكتب مور في اليوتوبيا:
لم يكتفوا بــأن لا
يفعلـوا شيئا لخير
بـــلادهم، فوجب عليهم
أن يؤذوهـا
فعليا، فهم لم يتركوا
أرضا للفلاحــة
وحصــروا كـــل قطعة
مــــن الأرض
للعشب وهــــدموا
البيوت والمــدن،
وكان الحاصل هو أن
الخراف صارت
تأكل البشر.
ولما كان يائسا من
إمكانيات الإصلاح، لجأ إلى بناء عالم خيالي من شأنه أن يستخدم كدليل للنفوس الحسنة
في أرض البؤس هذه.
كتاب اليوتوبيا عبارة
عن جزأين، تبدأ القصة من جزيرة لا وجود لها في أي مكان، ولا يمكن الوصول إليها إلا
بواسطة ربان يوتوبي يعرف جيدا الممرات الصالحة للملاحة.
في الجزء الأول يركز
مور على استحالة نصح الملوك، فلا فرق عنده بين خدمتهم والتبعية لهم، ولذلك رفض بطل
القصة فرافاييل هيثلوديوس الرحالة الذي عاد حديثا من جزيرة المدينة الفاضلة، تقديم
النصيحة للحكام، وقال:
لمــا كان الملــــوك
جميعهــم مشبعين
منذ شبابهم بأفكار
خـــاطئة ومصــابين
بها، فالمحتمل
هـــــــــو أن أي إنسـان
يقترح تدابير مفيدة
سيجد نفسه منفيا.
وبعد أن شجب هيثلوديوس
دور الناصح في الكتاب الأول، تابع ليقدم لنا شرحه للشيوعية الطوباوية في الكتاب
الثاني، واصفا النظام بأنه يستحق الإعجاب والمحاكاة.
يتحدث هيثلوديوس عن
زيارته لـ المدينة الطوباوية، فيقول إنه تعجب أن لا أحد من سكان هذه المدينة يعرف
شيئا عن العقيدة المسيحية، فقد وصل أهل المدينة الفاضلة لهذا المستوى الأخلاقي من
السلوك من خلال عمليات نقاش عقلي عادية.
وهذا يعني، أن
المجتمع، أي مجتمع يمكن أن يصل إلى جوهر المسيحية الأخلاقي من دون أن يكون مسيحيا.
بعبارة أخرى، كان هدف
مور إبراز أهمية العقل وقدرته، والتأكيد أن الدول الأوروبية
يمكن أن تكون أفضل
بكثير إذا اجتهدت، ففضائل مدينة اليوتوبيا تكشف عن طريق التضاد رذائل أوروبا
المسيحية، وقد صادق على هذا الرأي عدد لا يستهان به من الباحثين.
وحدة المجتمع في
المدينة الفاضلة هي الأسرة الأبوية، والأولاد ينسبون لآبائهم، والزواج من واحدة هو
الشكل الوحيد الذي يسمح به في مجال الارتباط الجنسي.
وقبل الزواج ينصح
الخطيبان بأن يرى أحدهما الآخر وهو مجرد من الملابس، حتى يكتشف العيوب الجسمانية
في حينه، ويسمح بالطلاق بسبب الزنا أو برضى الطرفين بشرط موافقة مجلس الجماعة.
وتختار كل ثلاثين أسرة
زعيم قبيلة كل عام ليحكمها ويختار كل عشرة من زعماء القبائل رئيساً لإدارة مقاطعة
بها ثلاثمئة أسرة، ويشكل المائتا زعيم للقبائل مجلسا قوميا ينتخب أميرا أو ملكا
مدى الحياة.
وأهم صفة من صفات
المجتمع الفاضل بالنسبة لـ مور، هي صفة النظام، وليس الحرية، فقد أكد أن هدف كل
تشريع يجب أن يكون الحفاظ على نظام صالح.
المساواة
سكان اليوتوبيا يجهلون
اللا مساواة والخلاف والبطالة لأنهم لا يعرفون الملكية الخاصة، ولا يعرفون النقود،
وكل فرد يشترك في العمل الزراعي لمدة ست ساعات، أما أوقات الفراغ فتكون للدراسة
والتسلية الفكرية.
كل إنسان في المدينة
الفاضلة يأخذ إنتاجه إلى المخزن العام ويتسلم منه حسب ما تتطلبه احتياجاته، ولا
أحد يطلب أكثر مما يكفيه لأن الأمان من الحاجة يصده عن الجشع.
ويتناول الناس الوجبات
على مائدة مشتركة وللمرء أن يأكل في بيته إذا شاء، ولا تعرف هذه المدينة المجاعات،
لأن المخازن العامة تحتفظ باحتياطي للطوارئ.
وسكان المدينة الفاضلة
أحرار، بمعنى الحرية من الجوع والخوف، ولكنهم ليسوا أحراراً في أن يعيشوا على حساب
الآخرين.
وفي المدينة الفاضلة
قوانين، بيد أنها بسيطة وقليلة، ومن ثم ينتظر من كل إنسان أن يدافع عن قضيته ولا
حاجة لوجود محامين.
ويحكم على الذين
يخالفون القانون بالعمل عبيدا للجماعة، ويقومون بأداء المهام الكريهة، ولكنهم
يستعيدون المساواة الكاملة بأقرانهم بعد انتهاء دورهم.
والدين في المدينة
الفاضلة يكاد يكون حرا، وفي وسع ساكن المدينة إذا شاء أن يعبد الشمس أو القمر، فقط
الإلحاد وإنكار خلود الإنسان، هما الممنوعان.
وهؤلاء مع الذين
يلجأون للعنف في المسائل الدينية، يقبض عليهم ويعاقبون لأن القوانين تستهدف منع
النزاع الديني، وفي هذا يحاول مور تجاوز واقع عصره الديني، حيث الانشقاقات الدينية
ازدادت مع ظهور البروتستانتية.
إن تركيز مور على
المساواة في كل شيء، كان تجسيدا لرفضه اللا مساواة في زمانه، ممثلة بطبقة النبلاء
التي كانت مبنية على الوراثة والثروة فقط، تلك الطبقة التي عاملت نفسها كصاحبة
امتيازات مقدسة.
يكتب في اليوتوبيا:
صـرخ هيثلوديوس فجـأة
قــائلا، عندمـا
أفكر وأقلب في عقلي
حالة الحكومات
المزدهرة فــي أي مكان
اليـوم، فليكن
الله فــي عوني، فـأنا
لا أرى شيئـا آخر
غير مؤامرة الأغنياء
الذين يسعون إلـى
تحقيق مصالحهم الخاصة
تحت عنـوان
الدولة.
وذهب كوينتن سكنر إلى
أن الشغل الشاغل الرئيسي لـ مور عبر مهاجمته الأرستقراطية الوراثية، هو الشك
بالفلسفة الاجتماعية للفلاسفة الإنسانيين، الذين طالما أكدوا على اعتبار الفضيلة
هي النبالة الحقيقية.
والسبيل الوحيد للمصلحة
العامة يكون في القضاء على المنزلة الاجتماعية، والحفاظ على المساواة، وبتطبيق ذلك
المبدأ، تمكن مواطنو اليوتوبيا من تأسيس الحكم الفاضل.
هذه المساواة
الاجتماعية يجب أن تستكمل بالمساواة السياسية التي تترجم من خلال انتخاب الحكام.
وذهب كثير من المفكرين
إلى القول إن مشروع مور لا ينتمي إلى عصر النهضة، بقدر ما ينتمي إلى العصور
الوسطى، أي أن مور أراد العودة إلى روح العصر الوسيط حيث للجماعة أهمية كبيرة،
مقابل عصر النهضة الذي ضعفت فيه الجماعة لصالح الأمير.
ومع ذلك، ينظر بعض
المفكرين إلى أن اليوتوبيا للسير توماس مور هي أعظم إسهام في النظرية السياسية في
النهضة الشمالية لأوروبا، وقد جسد النقد الرئيسي للمذهب الإنساني.
بعد عدة قرون عدة يطوب
مور كأحد الأبرار على يد البابا ليون الثالث عشر عام 1886 ثم يجعل منه قديسا عام
1935 على يد البابا بيو الحادي عشر تحت اسم القديس توماس مور.
حسين عبد العزيز
كاتب وإعلامي سوري
الوطن في منظور الشعراء.. إبراهيم طوقان
مثقفو مصر: لا لهدم مسرح البالون والسيرك القومي