لعل العملية العسكرية
التركية في شمال
سوريا قد شرّعت لسياسة الذراع الطويلة ضمن مفهوم حماية الأمن
القومي، وذلك بتوافق روسي أمريكي تام حول ما قامت به
تركيا. وقد أشاد الرئيس
الأمريكي دونالد ترامب بنجاح تركيا في إنشاء منطقة آمنة بين تركيا وسوريا، ونوّه
بالاتفاق بين أنقرة وموسكو لإبعاد المقاتلين الأكراد الذين يعرفون باسم "وحدات
حماية الشعب"؛ وتقول تركيا إنهم تابعون لحزب العمال الكردستاني الذي يخوض
صراعا مسلحا ضد الكومة التركية منذ ثمانينيات القرن الماضي.
ورغم أن هذه
الوحدات المقاتلة تعلن أنها كيان مستقل، لكنها لا تنكر تبنيها لأفكار زعيم حزب
العمال الكردستاني عبد الله أوجلان.
وشكل التوافق
الأمريكي الروسي صفعة للجامعة العربية التي أدانت العملية التركية، واعتبرتها
احتلالا لأراض سورية. ولم تنجح العديد من التحركات الدبلوماسية المعارضة للعملية
على الصعيدين الدولي والإقليمي في إثناء أنقرة عن هذه العملية. وفيما حاول معارضو
هذه العملية وضعها في إطار التدخل الآثم؛ أصرت تركيا على أنها تأتي في اطار مفهوم
الأمن الوطني لتركيا، وما يتطلب ذلك من إجراءات تحافظ بها الدولة التركية على
كيانها ومصالحها في الحاضر والمستقبل.
لقد
ظلت تركيا على الدوام مركز قوة في المنطقة ولا تتوانى في تبني سياسة الذراع الطويل
لحماية مصالحها خارج الحدود، ولم تجرؤ القوى الأخرى على اعتراضها. ويحكي التاريخ
القريب أنه في 20 تموز/ يوليو 1974 غزت تركيا قبرص، ردا على دعم المجلس العسكري اليوناني
للانقلاب على نظام الحكم في قبرص. وانتهت العملية العسكرية بانتصار تركيا، وإعلان استقلال
جمهورية شمال قبرص التركية على شمال قبرص، في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر من عام
1983.
وتؤكد جرأة تركيا
وهي تقوم بعمليتها الحالية شمال شرق سوريا على قناعتها بأنها تقوم بما يجب أن تقوم
به للحفاظ على أمنها القومي، ولعل إعلانها على الملأ قبل بدء عمليتها أنها بصدد القيام
بها؛ يشير إلى مدى رسوخ هذه القناعة لديها.
في بداية العام الماضي دخلت تركيا إلى
منطقة عفرين السورية، في عملية سمتها "غصن الزيتون"، وهي منطقة حدودية محاذية
لولاية هاتاي التركية ونقطة الوصل والفصل بين تركيا وسوريا، وتشكل 2 في المئة من مساحة
سوريا. وأعلنت تركيا أن لعملية عفرين هدف واحد وصريح، وهو عدم السماح بإقامة أي كيان
إرهابي على طول حدودها الجنوبية الممتدة من إيران إلى البحر الأبيض المتوسط، في
إشارة إلى الأكراد الذين تدعمهم الولايات المتحدة. وعندما بلغت الغضبة التركية
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، قال معقبا على دعوة الرئيس التركي طيب أردوغان للولايات
المتحدة لإنهاء تسليحها لوحدات حماية الشعب الكردي: إن واشنطن لم تعد تمد الجماعة بالسلاح،
وتعهد بألا تفعل ذلك في المستقبل.
وجاءت العملية التركية
الحالية التي سمتها أنقرة "
نبع السلام" بعد قرار ترامب سحب قواته من تلك
المنطقة. ورغم أن واشنطن قالت إنها لم تعط أنقرة ضوءا أخضر، لكن قالت في نفس الوقت
إن لتركيا مخاوف أمنية مشروعة في تلك المنطقة. وهذا لعمري الضوء الأخضر ذاته ولا
شيء سواه.
ويتعارض قرار
ترامب بالانسحاب من المنطقة مع رغبة دهاقنة البنتاغون ووزارة الخارجية؛ الذين سعوا
للحفاظ على قوات أمريكية هناك بأي ثمن. وفي هذا السياق قالت صحيفة نيويورك تايمز في
تقرير لها؛ إن ترامب وافق على العملية التركية التي ستزيل القوات الكردية التي
كانت تدعمها واشنطن. ويبدو أن ترامب قد تخلى عن الأكراد بعد قناعته بهزيمة تنظيم
الدولة هناك، وكان ترامب يستعين بهم في قتال تنظيم الدولة.
ولعل رغبة
ترامب في الانسحاب لم تكن جديدة إذ دعا في كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي لانسحاب
القوات الأمريكية، إلا أن رد فعل عنيف معارض قد صدر من البنتاغون والخارجية ووكالة
المخابرات وبعض الحلفاء الأوروبيين، مما دعا ترامب للتراجع. وتخشى الأوساط الأمريكية
الداعمة للأكراد من أن تعمل تركيا بعد سيطرتها على المنطقة؛ على توطين لاجئين
سوريين لديها على حساب أكراد سوريا، الأمر الذي يعتبر تغييرا في الخريطة السكانية
للمنطقة.
ولكن وبدون الغرق في تعقيدات التي تلف
المنطقة، نجد أن تركيا بثقلها السياسي والاقتصادي تعتبر الدولة الأكثر تأهيلا
لتحقيق توازن استراتيجي يمنع انهيارا كاملا لمنظومة المنطقة الجيوسياسية، ويقتضي
ذلك تحالفا، أو على أقل تقدير تعاونا من الدول المعنية، فضلا عن قدرتها على القيام
بدور مؤثر في حلّ الصراعات الإقليمية.
وقد أظهرت تركيا مواقف قوية تجاه نظام
الأسد وجرائمه في سوريا منذ انطلاق الثورة، واحتضنت أنقرة السوريين الفارين من
رصاص وبراميل وصواريخ الأسد. ووفقا لأرقام الأمم المتحدة، هناك 1.8 مليون لاجئ
سوري، بل منحت أنقرة المواطن السوري حق البقاء والدخول إلى تركيا حتى بدون وثائق
رسمية أو بوثائق منتهية الصلاحية، فضلا عن احتضان المعارضة السياسية.
لقد استطاعت تركيا تسويق نفسها كنموذج
إسلامي ديمقراطي ناجح في المنطقة، كما حدث اختراق في علاقاتها مع العالم العربي عبر
مواقفها القوية المؤيدة للقضية الفلسطينية في كافة المحافل الدولية.