لا يخفى على المتابع للمشروع الحداثي للشاعر اللبناني يوسف الخال (1917-1987) الذي قاده من خلال مجلة "شعر" تعرضه للارتباك والخلل الواضحَين، كما اتضح في مجمل القضايا والإشكاليات التي عرضها؛ بسبب افتقاره لهويته وخصوصيته الذاتية، فكانت رؤيته للحياة والثقافة، ومنها الشعر، مستعارة برمتها من الآخر الغربي. وهو بذلك يسير بالحداثة إلى خارج مسارها الطبيعي؛ ذلك لأنها، في جوهرها، قرينة الاختلاف والمغايرة.
ولعل أبرز بواعث هذه الإشكالية طبيعة
العلاقة بالثقافة الغربية القائمة في كثير من الأحيان، على الاستنساخ والتقليد،
بحيث يتم التعاطي معها بدون فحص نقدي واع، حيث نجد الشاعر العربي منبهراً إلى حد
الدهشة والاستلاب بنزعات التجريب؛ ما يؤدي في النتيجة إلى حداثة منسوخة لا تبرز
خصوصية الحداثة العربية وهويتها.
ولم تكن تجربة الخال بدعا في ذلك،
فقد قامت نظريته في مستوييها الفكري والنقدي، وكذلك شعره، على استلهام النموذج
الغربي بصورة مطلقة. وعلى الرغم من أنه كان يشير، بين الحين والآخر، إلى أهمية
التواصل مع الثقافة العربية، كما كان يؤكد في أحيان عديدة إلى أن الحداثة العربية
قد نشأت نتيجة ظروف المجتمع العربي الخاصة وضمن معطياتها الثقافية، فلا نشهد لديه
في الواقع العملي حضورا للثقافة العربية بشكل ملحوظ، أو مراعاة لإشكالياتها
وشروطها الخاصة.
فالحداثة التي يطرحها (حداثة وهم)،
فمجمل تصوراته تدور في فلك النظرية الغربية، ونجد أن عنصر الإضافة إليها محدود
تماما. فهي، بذلك، تمثل (حداثة أبوية)
تابعة برمتها للمنجز الغربي، وغير قادرة على إنتاج مصطلحاتها ومفاهيمها ونظريتها
الخاصة، فهي تندرج في دائرة الحداثة الغربية، والأنجلو أمريكية تحديدا، وتعيد
إنتاج مصطلحاتها ومفاهيمها ومقولاتها، وتستعير تصوراتها وموقفها من الحياة.
اقرأ أيضا: محمود درويش : (الاسم) وجدلية الحضور والغياب
كما أن مجمل العناصر التي بنى عليها نظريته مستعارة من النظرية الغربية، على نحو ما وجدنا في تصوره للحداثة في مرجعيتها الليبرالية، وفي مفهومه للشعر، وموقفه من اللغة والتراث، والغرب. فهي جميعا تتصل بعرى وثيقة بمقولات (النقد الجديد) و(إيليوت) على وجه التحديد.
كما كان تصوره للتراث قائما على اعتماد التراث الغربي بوصفه التراث الذي على الثقافة العربية، والشعر العربي بخاصة، الاستناد إليه للدخول في دائرة الإبداع؛ كونه تراثا مثاليا يجب احتذاؤه واعتماد مفاهيمه وتصوراته.
وقد تعرض موقفه للانتقاد الشديد، فتم
النظر إليه على أنه "حاول أن يجعل الحداثة الشعرية العربية تابعاً للحداثانية
الغربية في مفاهيمها المعاصرة. وعلى مستوى الممارسة الشعرية حاول أن يشدّ الشاعر
العربي إلى موقف أنطولوجي فلسفي مماثل لموقف الشاعر الحداثاني الغربي".
والواضح، أن الخال يسهم في تعميق
إشكالية علاقة الثقافة العربية بنظيرتها الغربية، من خلال محاولته صياغة تصورات
ومفاهيم غربية الملامح، والتبشير بها كتصورات نهائية. حيث يغدو الغرب بتجلياته
الثقافية الشاملة نموذجاً حضارياً مهيمنا ً له القدرة المطلقة على السيرورة واختراق
الحدود الجغرافية.
كما يبدو النموذج الغربي لديه نموذجا
متعاليا ومتماسكا غير خاضع للفحص والنقد والمساءلة. فلا نجد لديه أدنى اهتمام
بإعادة النظر في الثقافة الغربية، على غرار ما حدث في الفكر الغربي من بروز تيارات
نقدية تعترض على مشروع الحداثة الغربية منها على سبيل المثال مدرسة (فرانكفورت)،
فيما نجده، في المقابل، يكرس جهدا كبيرا لنقد التراث العربي ومساءلته. واستنادا
لذلك، تبدو الحداثة الغربية وحدة متكاملة منسجمة مع ذاتها، لم تعان من أي أزمة
فكرية أو إبداعية، ولم تتعرض عير سياقها التاريخي الطويل لما يعطل سيرورتها
الفكرية والإبداعية، على غرار ما يحدث في شتى الثقافات.
اقرأ أيضا: أصل الرواية ونشأتها (2)
ولا شك بأن مثل هذا التوجه اللا محدود
صوب الثقافة الأنجلو امريكية، ومحاولة إقصاء الثقافات الأخرى، يثير تساؤلاً حول
إمكانية اختزال الحداثة في نموذج واحد عالمي ومطلق، وهو ما يتعارض مع أساس الحداثة
الذي يفترض أن "لكل حداثة نموذجها الخاص نسقها المعرفي المتميز أسئلتها التي
ارتبطت بهمومها، وهي لا تشترك مع غيرها من الحداثات إلا من الملامح الثقافية التي
يكتفي بها". كما يتعارض مع ما تتسم به الحداثة من التعددية والاختلاف
والنسبي، والصيرورة الدائمة.
وبذلك جاءت هذه العلاقة سلبية من طرف
واحد دون أن يكون للثقافة العربية أي مشاركة فيها، فتحولت إلى ما يطلق علية هشام
شرابي (الحداثة الصنمية) أو (الحداثة الأبوية)، حيث تتحول النماذج الغربية في كل
مجالات الحياة، الشعر، إلى أصنام، وتغدو الثقافة العربية مجرد ترجمات لهذه
النماذج، وحينئذ تصبح حداثة مشوهة وزائفة.
لذا، فإن حداثته جاهزة، لم تولد من
رحم المعاناة والتجربة، بقدر ما كانت استهلاكا لمنجزات الآخر، وخضوعا لإغرائها
وبريقها. كما كان وعيه النقدي والإبداعي
يظهر من خلال مرآة الآخر. لقد كان الخال مقلدا، بامتياز للنقد الأنجلو أمريكي، فقد
وقع في شرَك التقليد والمحاكاة، في الوقت الذي كان يشن فيه حملة عنيفة على
الأساليب الشعرية الموروثة، ويتعرض بالنقد اللاذع للشعراء العرب؛ لوقوعهم في
التكرارية، بتمسكهم بالأصول الإبداعية الموروثة، واستنادهم إلى التصورات
الرومانسية أو الواقعية، كما تبين في موقفه المتطرف من فكرة الالتزام.
يضاف إلى ذلك، أننا لا نجد لديه
محاولة جادة للخروج من دائرة المحاكاة والتبعية للنموذج الغربي إلى دائرة الإبداع،
على الرغم من إيهامه لنا بتبني حداثة مغايرة بدعوته إلى (رؤية جديدة) و(نظرة
جديدة) و (موقف جديد)، وترديده لمفاهيم مثل: (الخلق) و(الإبداع) التي تنطوي على
المغايرة، والاختلاف، والذاتية.
لقد قامت نظرية الخال الفكرية
والشعرية على استلهام النموذج الغربي إلى حد الذوبان والتلاشي؛ ولذلك، افتقد
نموذجه الحداثي إلى صبغته المحلية والقومية وغدا مستلبا للنموذج الغربي بشكل
مطلق. ولعل ذروة الاستلاب لديه تتجلى، في اعتباره المسيحية، ذات الأصول الشرقية،
نتاجا غربيا، ولذلك فهو يتبناها في سياق تبنيه للحضارة الغربية.
وقد قاده ذلك إلى تجاوز الجانب
الاجتماعي للحداثة، وإلى عدم الوقوف على مدى ملاءمة النموذج الغربي للواقع العربي
وما ينطوي عليه من خصوصية ثقافية واجتماعية؛ متناسيا أن مشروع الحداثة العربية
ينطلق من خصوصية الثقافة العربية وسياقاتها، واستجابة للمتغيرات الجذرية التي
شهدها المجتمع العربي. فنجده يصب جهده في مسألة واحدة هي: ضرورة انفتاح الثقافة
العربية على الغرب الأنجلو أمريكي، والإفادة المطلقة من منجزاته الفكرية والنقدية
والإبداعية.
وعلى الرغم من أنه كان يشير بين
الحين والآخر إلى أن الحداثة العربية نشأت نتيجة ظروف المجتمع العربي، وضمن
معطياته الثقافية الخاصة، لم نشهد لديه أدنى اهتمام بمراعاة إشكالياتها وخصوصيتها
وشروطها الاجتماعية والفكرية الخاصة، كما لا نلحظ لديه وعياً بالفروقات الاجتماعية
والحضارية بين السياقين العربي والغربي.