يعد البرلمان المصري الموجود
حاليا من أسوأ البرلمانات في تاريخ مصر. فبالرغم من أن مجلس النواب الحالي في مصر
يحظى بصلاحيات دستورية وسياسية غير مسبوقة في تاريخ البرلمانات المصرية؛ إذ يتضمن
الدستور 37 مادة تتعلق بهذه الصلاحيات، أبرزها المادة 131 التي تعطيه سلطة سحب
الثقة من الحكومة، والمادة 137 التي تحظر على الرئيس حلَّ البرلمان إلا في حالات الضرورة،
إضافة إلى المادة 159 التي تخوِّل البرلمان اتهام رئيس الجمهورية بانتهاك أحكام
الدستور، أو بالخيانة العظمى، أو بأي جناية أخرى.
وتبقى صلاحية سحب الثقة من رئيس الجمهورية
إحدى أهم الصلاحيات التي منحها الدستور لمجلس النواب؛ إذ يحق له سحب الثقة من
الرئيس والدعوة لإجراء انتخابات مبكرة، وذلك بعد موافقة ثلثي الأعضاء. وبالرغم
أيضا من أن هذا البرلمان يضم بين جوانبه 90 امرأة وأكثر من 50 شابا ممن هم تحت سن
الخامسة والثلاثين و40 قبطيا، وهذه نسب لم تكن موجودة في المجالس النيابية
السابقة. لكن المتابع أعمال هذا المجلس، يتبين له أنه لم يسعَ للاستفادة من تلك
الصلاحيات الكبيرة لتعزيز دوره التشريعي والرقابي، ولتحقيق التوازن بين السلطتين
التشريعية والتنفيذية، بل حدث العكس تماما؛ وصار البرلمان مجرد ذيل وتابع للسلطة
التنفيذية، مدافعا عن قرارتها بدلا من مراقبتها ومساءلتها!! وتصدرت المشهد الأصوات
الغوغائية التي وصلت إلى هذا المجلس في غفلة من الزمن، فغابت الأفكار الواعية
والآراء السديدة والحكمة داخل المجلس والرؤية الثاقبة وغابت المحاسبة وإعمال
الدستور، ولم نر سوى الفشل والتردي مما زاد من مشاكل وهموم الوطن في الوقت الذي
كان من المفترض أن يساهم النواب في تقديم الحلول. وقد ظهر ذلك جليّا في:
- تمرير مئات التشريعات والقرارات التي صدرت
بقوانين، في عهد عدلي منصور والسيسي بدون مناقشة جدية.
- لم يقم بأي استجواب أو مساءلة برلمانية حقيقية
أو جادة للحكومة بشأن الكثير من القضايا والملفات التي تشغل الرأي العام؛ فعلى
سبيل المثال لا الحصر، لم تحظ ما تسمى بـ"المشروعات القومية الضخمة"
التي تنفذها الدولة دون دراسة حقيقية لجدواها وعائداتها الاقتصادية. رغم تكاليفها
الهائلة لم تحظ باهتمام يُذكر من جانب البرلمان ونوابه، مثل مشروع العاصمة
الإدارية الجديدة، الذي تُقدَّر كلفته بعشرات المليارات من الجنيهات، ويأتي في وقت
يعاني فيه الشعب المصري من الفقر والجوع، فلم يَقدِم النواب على مساءلة الحكومة عن
جدواه في هذا التوقيت، كما لم يطلب البرلمان من الحكومة حتى الآن كشف حساب عن
مشروع التفريعة الجديدة لقناة السويس، والذي أضاف إلى الدَّين الداخلي 64 مليار
جنيه دون عوائد واضحة له.
أما المثال الأكبر الصارخ والأكثر فجاجة على
عدم قيام البرلمان بمهامه المنوطة، فهو "اتفاق الحكومة مع صندوق النقد
الدولي" فوفقا لأحكام الدستور كان ينبغي عرض هذا الاتفاق، الذي ستحصل بموجبه
مصر على قرض هو الأضخم في تاريخها بقيمة 12 مليار دولار، على مجلس النواب قبل
التوقيع عليه، لكن ما حدث هو أن المجلس لم يناقش الاتفاقية أصلا إلا بعد عدَّة
أشهر من توقيعها، وبعد أن دخلت حيز التنفيذ بالفعل، وتلقت مصر شريحتين من هذا
القرض. هذا، بالإضافة لمواقف البرلمان المزرية من الإجراءات الاقتصادي، التي جاءت
تنفيذا للاتفاق مع صندوق النقد، وما ترتب عليها من ارتفاع فادح في تكاليف المعيشة،
أو مواقفة المشينة من الوضع الأمني في سيناء، أو قضية جزيرتي تيران وصنافير.. فلم
تكن مواقفه سوى صدى لما يقوله أو يريده قائد الانقلاب.
أقول في ضوء كل ما سبق: إن هذ البرلمان ليس
فقط لا يقوم بدوره التشريعي والرقابي، بل أصبح يلعب دورا قذرا لتعزيز القبضة
السلطوية لنظام العسكري الانقلابي، وتكريس هيمنة النظام على المقدرات السياسية
للدولة بشكل كامل من خلال عدد من القوانين والتشريعات التي أقرها أو أصدرها المجلس
منذ انتخابه، كما أن بقاءه بتركيبته وأدائه الحالي، هو إهدار للمال العام. وخطورة
بقاء هذا البرلمان لا تقتصر على عدم قيام البرلمان بمهامه التشريعية والرقابية
المنشودة، بل الأخطر من ذلك كله أنه تحول لمجرد تابع للسيسي فبات يشرعن له سياسة "الاستبداد
والفساد والتبعية" وتكريسها بصورة أشد قمعا مقارنة بما كانت عليه الأوضاع قبل
ثورة يناير، كما أصبح يقوم بدور وظيفي في توفير الغطاء القانوني للإجراءات القمعية
التي تقوم بها النظام العسكري المصري، وقد تمثَّل ذلك في إصدار وتمرير سلسلة من
التشريعات المعادية للحريات السياسية والعامة، التي لا هدف لها سوى التمكين للنظام
العسكري لاستكمال تأميم العمل العام والسيطرة على مقدرات المشهد السياسي بشكل كامل.
ولكي نفهم جميعا طبيعة الدور الوظيفي الذي
يلعبه هذا المجلس الحالي، لا بد من التوقف عند ظروف ولادة هذا المجلس، والسياق
السياسي والأمني، والقواعد القانونية التي جرت على أساسها الانتخابات النيابية
التي أفرزته نهاية عام 2015.
1- جاء هذا البرلمان عقب انتخابات لم تتوفر لها،
وفق كثير من المراقبين، قواعد المنافسة العادلة؛ حيث غُيِّبت عنها قوى الإسلام
السياسي وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، أكبر فصيل سياسي في مصر.
2- تم إخراج هذه الانتخابات وفقا لحسابات قائد
الانقلاب ونظامه، وبما يضمن له تشكيلة برلمانية هشَّة وموالية يسهل تطويعها،
والحيلولة دون إفراز برلمان قوي يعكس تمثيلا حقيقيّا للمصريين سياسيّا واجتماعيّا،
ويمكن أن يمثِّل تحديا للنظام الانقلاب.
3- القانون الانتخابي الذي جرت على أساسه
الانتخابات قد انحاز بوضوح للنظام الفردي على حساب نظام القوائم؛ ما فتح الطريق
لسيطرة رجال الأعمال وأبناء كبار العائلات في الريف للسيطرة على البرلمان على حساب
تمثيل القوى الحزبية والسياسية.
4- الدور الواضح لأجهزة الأمن في اختيار المرشحين
بما يضمن وصول الشخصيات الموالية للنظام، فقد لعب جهاز المخابرات العامة دورا
خطيرا في تشكيل قائمة "في حب مصر" الانتخابية الموالية للقائد الانقلاب،
وهي القائمة التي حصدت كافة المقاعد المئة والعشرين المخصصة للقوائم في
الانتخابات؛ ما دفع البعض لتسمية هذا البرلمان بـ"برلمان الأجهزة الأمنية.
5- سيطرة أغلبية موالية للسلطة التنفيذية على
البرلمان الجديد، تمثلت فيما سُمِّي بـ"ائتلاف دعم مصر"، الذي ضمَّ
خليطا من جنرالات سابقين في الجيش والداخلية ورجال أعمال، وبعض المنتمين للحزب
الوطني المُنحل، والعائلات الكبرى، وهي أغلبية حرصت على تأييد النظام والسيسي أكثر
من رغبتها في قيام مجلس النواب بواجباته التشريعية والرقابية.
6- لم يأت نتيجة انتخابات نزيهة، وإنما جاء
بالاختيار من قبل الأجهزة الأمنية والاستخباراتية والدليل على ذلك كثرة النواب
المنتمين للجيش والشرطة، وهؤلاء من المعلوم أنه ليس لهم رصيد شعبي في الشارع حتى
يصلوا للبرلمان، ناهيك عن الفنانين وغيرهم من الشخصيات التي كانت تقف وراء استدعاء
العسكر للهيمنة على الحياة السياسية. وبالرغم من أن الدستور الحالي ينص على ضرورة
أن يقوم مجلس النواب فور انعقاد جلساته، بمناقشة القرارات بقوانين التي صدرت سواء
في عهد الرئيس المؤقت عدلي منصور، أو عقب تولي السيسي، لإقرارها أو إلغائها، فإن
المجلس صادق بدون تغيير أو تعديل يُذكر، على الأغلبية الساحقة من هذه القوانين،
والتي بلغ عددها 342 قانونا، ومن بين التشريعات التي أقرها المجلس أو أصدرها في
وقت لاحق، حزمة من القوانين جاءت بهدف تمكين النظام من السيطرة على الأوضاع
السياسية، وإخماد كل مظاهر الاحتجاج والمعارضة في الشارع المصري وتأميم المجال
العام بشكل كامل.
ومن أهم تلك القوانين:
1- قانون التظاهر: الذي أصدره الرئيس المؤقت عدلي
منصور في تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، وهو القانون الذي استندت إليه السلطة لمحاكمة
والزج بآلاف المعارضين والنشطاء في السجون بتهمة انتهاك أحكامه التي تتضمن جملة من
العقوبات المالية والسالبة للحرية؛ إذ يلغي هذا القانون عمليّا حق المواطن في
التجمع والتظاهر السلميين، ويفرغ الحق في التعبير الحر والعلني عن الرأي دون تهديد
أو خوف، من مضمونه، حيث تمنح المادة العاشرة منه الأجهزة الأمنية سلطة مطلقة
لإلغاء أو تأجيل وتغيير مكان أية مظاهرة أو مسيرة، ويجعل من هذه الأجهزة الخصم
والحكم في الوقت نفسه. وقد جاءت موافقة مجلس النواب على هذا القانون رغم وجود دعوى
أمام المحكمة الدستورية للطعن على دستوريته، وهي الدعوى التي قضت فيها المحكمة في
3 كانون الأول/ ديسمبر 2016، بعدم دستورية المادة 10 من القانون التي كانت تشترط
موافقة الأجهزة الأمنية المسبقة على أية مظاهرة أو مسيرة بدعوى الإخلال بالنظام
العام، وجعلت الأمر مقتصرا على الإخطار، مع احتفاظ هذه الأجهزة بحقها في استصدار
قرار قضائي بمنع المظاهرات السلمية، إذا رأت أنها تعطِّل جهود الإنتاج وتهدد حقوق
المواطنين الآخرين.
2- قانون "الكيانات الإرهابية": الذي
أصدره قائد الانقلاب بقرار بقانون، في 24 شباط/ فبراير 2015، باسم قانون
"تنظيم قوائم الكيانات الإرهابية والإرهابيين"، ويعتبر هدا القانون أحد
أكثر القوانين التي مررها مجلس النواب، عصفا بالحقوق والحريات، لما يتضمنه من
صياغات فضفاضة تتيح للسلطة تعقب المعارضين السلميين وإنزال العقاب بأصحاب التوجهات
المناوئة لسياسات وممارسات النظام. وتفرغ مواد هذا القانون النصوص الدستورية
المتعلقة بالحقوق والحريات من مضمونها، كالحق في التجمع السلمي وفي تكوين الجمعيات
الأهلية والأحزاب السياسية، وكذلك الحريات الصحفية وحرية التعبير عن الرأي، وفضلا
عن العقوبات المغلظة التي يفرضها على المتورطين في أعمال إرهابية أو المحرضين
عليها وفق عبارات فضفاضة.
كما يضع هذا القانون قيودا مشددة على عمل وسائل الإعلام
حيث ينص في المادة 35، على توقيع غرامات مالية ضخمة بحق كل من "تعمد بأي
وسيلة كانت نشر أو إذاعة أو عرض أو ترويج أخبار أو بيانات غير حقيقية عن أعمال
إرهابية وقعت داخل البلاد أو عن العمليات المرتبطة بمكافحتها بما يخالف البيانات
الرسمية الصادرة عن وزارة الدفاع". وتتيح الصياغات الغامضة وغير المنضبطة
لمواد القانون، للسلطة توجيه تهمة الإرهاب لأي من معارضيها بدون ضوابط وقواعد
واضحة، وهو ما حدث بالفعل في كانون الثاني/ يناير 2017، حين أدرجت السلطات المصرية
ما يزيد عن ألف وخمسمئة شخص على قوائم الإرهاب وأنزلت بحقهم كافة الآثار المترتبة
على ذلك وفقا لأحكام هذا القانون.
3- تعديل قانون الجامعات: صدر به قرار جمهوري
بقانون رقم 52 لسنة 2014، بجعل اختيار القيادات الجامعية بالتعيين، ليلغي بذلك أحد
المكتسبات المهمة التي تحققت عقب ثورة 25 يناير، والتي تمثَّل في اختيار رؤساء
الجامعات وعمداء الكليات بالانتخاب. لكن وبدلا من العودة إلى النظام الذي كان
معمولا به في عهد مبارك، والذي كان ينص على حق رئيس الجمهورية في اختيار رؤساء
الجامعات، الذين يقومون بدورهم باختيار عمداء الكليات، فإنه وفقا للتعديل الجديد
امتدت سلطة الرئيس الحالي إلى تعيين عمداء الكليات أيضا، وهو ما منح السلطة
التنفيذية السيطرة على الجامعات وبما يفقدها ما كان لديها من هامش استقلالية عن
السلطة التنفيذية.
4- تعديل قانون الحبس الاحتياطي: صدر هذا القانون
في عهد الرئيس المؤقت، عدلي منصور، وأقره مجلس النواب كما هو، ويقضي بتعديل المادة
143 من قانون الإجراءات الجنائية، بما يتيح للقضاة تجديد أوامر الحبس الاحتياطي إلى
أجل غير مسمى، للمتهمين الذين تنظر المحكمة استئنافهم أحكاما بالإعدام أو بالسجن
المؤبد، أو الذين تُعاد محاكمتهم بعد أن صدرت ضدهم إحدى هاتين العقوبتين. وقبل
التعديل كانت هذه المادة تنص على "ألا تتجاوز مدة الحبس الاحتياطي 6 شهور في
الجرائم البسيطة (الجنح)، و18 شهرا في الجرائم الخطيرة، أو سنتين في الجرائم التي
يُعاقَب عليها بالإعدام أو المؤبد.
ووفقا لهذا القانون، وُضع آلاف المتهمين رهن
الحبس الاحتياطي لمدد غير محددة، بغض النظر عن خطورة الجريمة أو احتمال الهروب،
كما وجد البعض أنفسهم مسجونين لسنوات قبل أن تصدر أحكام براءة بحقهم، ويخالف هذا
القانون مبادئ القانون الدولي لحقوق الإنسان الذي نصَّ على أن يكون الاحتجاز قبل
المحاكمة هو الاستثناء وليس القاعدة، وأن أي شخص يخضع للاحتجاز قبل المحاكمة يجب
أن يُعرض على وجه السرعة وعلى فترات منتظمة بعد ذلك، على قاض للنظر في قانونية
احتجازه، وحق هؤلاء المعتقلين في أن يُحاكموا في غضون فترة زمنية معقولة أو أن
يُفرج عنهم.
5- قانون تعيين وعزل رؤساء الأجهزة الرقابية:
وافق مجلس النواب، في 17 كانون الثاني/ يناير 2016، على القانون رقم 89، لسنة
2015، والذي أصدره السيسي، والخاص بإعفاء رؤساء وأعضاء الهيئات المستقلة والأجهزة
الرقابية من مناصبهم. وهو ما يعرف إعلاميا بـ"قانون جنينة" في إشارة إلى
أنه صدر خصيصا لتقنين الإطاحة بالمستشار هشام جنينة، الرئيس السابق للجهاز المركزي
للمحاسبات، والذي جرى عزله من منصبه، بل وتقديمه للمحاكمة بتهمة الإضرار بالأمن
القومي، عقب تصريحات أدلى بها عن حجم الفساد في مصر.
ويتعارض هذا القانون بوضوح مع
أحكام الدستور الحالي الذي نص في مادته 215 على "تمتع الهيئات المستقلة
والأجهزة الرقابية بالشخصية الاعتبارية، والاستقلال الفني والمالي والإداري، وأن
يؤخذ رأيها في مشروعات القوانين، واللوائح المتعلقة بمجال عملها، كما يتعارض مع
استراتيجية مكافحة الفساد الصادرة من مجلس الوزراء عام 2014، التي ذكرت صراحة أن
من أهم معوقات مكافحة الفساد في مصر، افتقار أعضاء الأجهزة الرقابية إلى الحصانات
الكافية للقيام بدورهم، وتبعية بعض هذه الأجهزة للسلطة التنفيذية.
6- قانون المحاكم العسكرية: كان السيسي قد أصدر
هذا القانون في 27 تشرين الأول/ أكتوبر 2014، بعد ثلاثة أيام من هجوم غير مسبوق
على أفراد الجيش المصري في شمال سيناء من قِبل جماعة "أنصار بيت المقدس"
التي أصبحت في وقت لاحق "تنظيم ولاية سيناء" التابع لتنظيم الدولة؛ حيث
قُتل في هذا الهجوم نحو 20 جنديّا على الأقل.
وبموجب هذا القانون الذي سُمي بقانون "حماية المنشآت"، تم وضع جميع "المنشآت العامة والحيوية" تحت اختصاص المحاكم العسكرية على مدى العامين التاليين. وقد شملت أحكام القانون محطات وشبكات أبراج الكهرباء، وخطوط الغاز، وحقول النفط، وخطوط السكك الحديدية، وشبكات الطرق والجسور، وغيرها من المنشآت والمرافق والممتلكات العامة وما يدخل في حكمها.
كما أتاح القانون، الذي أقره مجلس النواب كما هو بدون تعديل، أتاح للنيابة العامة
إحالة أي جرائم تقع في تلك الأماكن إلى نظيرتها العسكرية، وقد أصدر النائب العام،
عقب صدور القانون، قرارا داخليّا يطلب من النيابة العامة إرسال أية قضية تستوفي
شروط هذا القانون إلى النيابة العسكرية، بغضِّ النظر عن مرحلة التحقيق التي وصلت
إليها، وبالفعل فقد أُحيل مئات المعتقلين إلى القضاء العسكري عقب صدور هذا القانون
في قضايا ووقائع سابقة على سريانه، في مخالفة صريحة لمبدأ الأثر الفوري في تطبيق
قانون العقوبات، والذي يقضي بأن يتم تطبيق القانون الذي كان نافذا وقت ارتكاب
الجريمة، وأنه في حال صدر قانون جديد ولم يكن أصلح للمتهم فإنه يتعين تطبيق القانون
الجنائي السابق على الأفعال التي وقعت قبل إلغائه بالقانون الجديد. ورغم أن هذا
القانون مؤقت المدة بعامين وفرضته الظروف الأمنية التي تشهدها البلاد وفقا للرواية
الرسمية، فإن القانون شكَّل انتكاسة كبرى للجهود التي بذلتها القوى المدافعة عن
حقوق الإنسان لوقف إحالة المدنيين للمحاكم العسكرية، التي تمثِّل إهدارا لمعايير
المحاكمة العادلة ومقومات التقاضي الشفاف.
7- قانون تنظيم الجمعيات الأهلية: أو ما يعرف
إعلاميا بـ"قانون تأميم العمل الأهلي" في مصر، وقد تمت مناقشته بشكل سري
داخل إحدى اللجان البرلمانية التي يسيطر عليها "ائتلاف دعم مصر" المؤيد
للسلطة، ويفرض هذا القانون، الذي أقرَّه مجلس النواب في نهاية تشرين الثاني/
نوفمبر 2016، بشكل عاجل ودون مناقشة تُذكر، قيودا مشدَّدة على منظمات العمل
الأهلي، سواء من حيث إجراءات التأسيس أو طريقة ونوع الأنشطة التي تمارسها هذه المنظمات،
أو التمويل وغيرها، بما يضعها من الناحية الفعلية تحت سيطرة الأجهزة الأمنية
والحكومية.
كما يتضمن عقوبات مشددة تصل للحبس لمدة خمس سنوات وغرامة مالية تصل إلى
مليون جنيه بحق كل من يخالف أحكامه. ووفقا لهذا القانون، تلتزم الجمعيات الأهلية
بالعمل "وفقا لخطة الدولة واحتياجاتها التنموية"، يعني عودة صريحة
لقانون الجمعيات الأهلية رقم 32 لسنة 1964، والذي أُطلق عليه وقتذاك "قانون
تأميم العمل الأهلي". ويتناقض القانون الجديد، مع المادة 76 من الدستور
الحالي، والتي نصَّت على حق المواطنين "في تكوين الجمعيات والمؤسسات الأهلية
على أساس ديمقراطي، وتكون لها الشخصية الاعتبارية بمجرد الإخطار وتمارس نشاطها
بحرية ولا يجوز للجهات الإدارية التدخل في شؤونها. هذا القانون مثال واضح لا لبس
فيه على دور مجلس النواب في تمكين سياسة الاستبداد من خلال القضاء الفعلي على حرية
التنظيم التي يكفلها الدستور، وإغلاق الفضاء العام وإهدار الحريات العامة.
8- قانون الهيئات الإعلامية: ينظِّم عمل المؤسسات
الصحفية والإعلامية في مصر، وقد وافق عليه مجلس النواب في جلسته العامة يوم 14
كانون الأول/ ديسمبر 2016، بعد مناقشات شكلية، بأغلبية ثلثي أعضائه. وحسب القانون
الذي يتضمن 89 مادة، يختص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام بتنظيم شؤون الإعلام
المسموع والمرئي والرقمي والصحافة المطبوعة والرقمية.. وغيرها. ويضم هذا المجلس
هيئتين، الأولى: الهيئة الوطنية للإعلام والمعنية بوسائل الإعلام المرئي والمسموع،
والثانية: الهيئة الوطنية للصحافة، وتتولى الإشراف على الصحافة المطبوعة والإلكترونية.
وهذا القانون، يكرس، سيطرة النظام وأجهزته الأمنية (السلطة التنفيذية) على الهيئات
الإعلامية الجديدة؛ حيث إن عدد ممثلي الحكومة في إدارة هذه الهيئات الجديدة، أكثر
من ممثلي الهيئات المستقلة؛ الأمر الذي يُفقدها استقلاليتها وقيامها بمهامها بشكل
حقيقي في الرقابة على المهنة وتلبية حق الجمهور في المعرفة.
وقد تم اختيار عدد من الشخصيات المحسوبة على
نظام مبارك والأجهزة الأمنية، على رأس هذه الهيئات. كما أن هذا القانون يتناقض مع
الفلسفة من وراء إصداره، والتي استهدفت تحرير الصحافة والإعلام من قبضة السلطة
التنفيذية تنفيذا لنص المادة (72) من الدستور الحالي التي تنص على أن "تلتزم
الدولة بضمان استقلال المؤسسات الصحفية ووسائل الإعلام المملوكة لها بما يكفل
حيادها وتعبيرها عن كل الآراء والاتجاهات السياسية والفكرية والمصالح الاجتماعية،
ويضمن المساواة وتكافؤ الفرص في مخاطبة الرأي العام".
كما جاء هذا القانون متزامنا مع هيمنة إعلام
الصوت الواحد على المشهد الإعلامي المصري، بعد أن تمكنت السلطة من وضع يدها على
وسائل الإعلام بشكل شبه كامل، سواء كانت حكومية أو مملوكة لرجال أعمال قريبين من
النظام الذي لم يكتف بذلك، بل دخل سوق الإعلام بشكل مباشر عبر إطلاق وامتلاك عدد
من القنوات الفضائية والمواقع الإخبارية.
وبالرغم أن تاريخ العلاقة بين البرلمان
والصحافة في مصر يوضح أنها اتسمت دائما بالشد والجذب، إلا أنها لم تبلغ حدَّ
الصدام والاحتقان الذي بلغته في ظل مجلس النواب الحالي ورئيسه، علي عبد العال،
الذي بدا منذ الوهلة الأولى لانعقاد جلسات المجلس، كارها للإعلام ضيق الصدر بأي
نقد يُوجَّه، ليس فقط لأداء المجلس، ولكن للحكومة وسياساتها؛ حيث بدأ عبد العال
عهده بقرار وقف البث المباشر لجلسات البرلمان وحرمان الرأي العام مما يجري تحت
قبته، كما منع عددا من المحررين البرلمانيين من دخول مقر البرلمان لأن تقاريرهم عن
جلساته لم تعجبه، فهو مثل السيسي يريد إعلاما خادما للسلطة، ومُرَوِّجا لسياساتها
وحشد الرأي العام خلف قراراتها.
ووفق هذه الرؤية، اعتُبر أي نقد لأداء النواب
أو الحكومة، جزءا من مؤامرة كبرى لإسقاط الدولة ومؤسساتها، ولذلك سعت الأغلبية
الموالية للسلطة في مجلس النواب لمنع كل صوت صحفي معارض، سواء من خلال المنع من
تغطية جلسات المجلس، أو التهديد بمعاقبة النواب الذين يتحدثون للصحافة بما لا يرضي
رئيس البرلمان. وهنا يمكن فهم موقف مجلس النواب المنحاز لوزارة الداخلية في أزمتها
مع نقابة الصحفيين في شهر أيار/ مايو 2016، عقب قيام عدد من ضباط الأمن باقتحام
مقر النقابة، للقبض على اثنين من الصحفيين المطلوبين على ذمة إحدى قضايا الرأي؛
فقد أيد رئيس البرلمان رواية الداخلية عمَّا جرى، واتهم النقابة بـ"التستر
على مطلوبين للعدالة".
وهكذا، بدا مجلس النواب مشغولا، طوال الوقت،
بكيفية إرضاء النظام عبر ملاحقة والتضييق علي أي صوت معارض سواء في الصحافة أو حتى
تحت قبة البرلمان، والعمل على تمكين الموالين والمؤيدين، مقابل تكميم أصوات
المعارضين الذين يتعامل معهم باعتبارهم خونة يسعون لإسقاط الدولة، وذلك بدلا من أن
يعمل على تعزيز الحريات العامة، والانتصار لحرية الصحافة والرأي والتعبير. ولم
يقتصر التضييق على الصحفيين المعارضين؛ حيث شمل محاولة إسكات أي صوت معارض، حتى
داخل البرلمان نفسه: في 24 أيار/ مايو 2016، هدَّد عبد العال، الأعضاء الذين
يظهرون في القنوات الفضائية، للتعليق على السياسة النقدية للدولة أو انتقادها،
بتحويلهم إلى لجنة القيم للتحقيق معهم وتوقيع عقوبات ضدهم، معتبرا أن ذلك يضر
بالاقتصاد القومي!! وبلغ الأمر حدَّ اتهامهم بالخيانة والعمل ضمن "مخطط لهدم
وتقويض مؤسسات الدولة ككل" لمجرد أنهم وجَّهوا انتقادات للحكومة أو بعض
قراراتها!!
شهدت جلسات البرلمان حالات طرد متكررة لنواب
المعارضة المنتمين لما يعرف بـ"تكتل 25-30"؛ لأنهم أبدوا وجهات نظر
مخالفة لرأي أغلبية البرلمان. في أواخر شباط/ فبراير 2017، قرَّر مجلس النواب
إسقاط عضوية النائب محمد أنور السادات بموافقة أكثر من ثلثي أعضائه، عقب اتهامه
بتوجيه رسائل إلى الاتحاد البرلماني الدولي تتضمن شكاوى مما يجري داخل مجلس النواب
المصري.
صحيفة "نيويورك تايمز" اعتبرت في
تقرير لها أن هذه الواقعة: "تسلِّط الضوء على التوازن غير المتكافئ للقوة في
المجلس الذي ينحاز إلى النظام السياسي وقواه الأمنية، والذي يمارس نفوذا كبيرا عبر
حفنة من السياسيين الذين يسهل تطويعهم، ويعتقدون في نظرية المؤامرة".
في ضوء كل ما سبق وفي ضوء افتقاد هذا المجلس
منذ البداية للتمثيل الحقيقي لكل التيارات السياسية والشرائح الاجتماعية، وهيمنة
أغلبية ذات طبيعة أمنية موالية للنظام، صُنعت على عينه، في ضوء هذا كله يمكن فهم
لماذا تحول مجلس النواب المصري من أداة لتعزيز الديمقراطية والانتصار للحريات
والتداول السلمي للسلطة، إلى وسيلة للتمكين لبناء جمهورية العسكر ونظام السيسي
الفاشي في مصر بصورة أكثر شراسة وأشد قمعا، وهو ما جرت ترجمته عمليّا بمجموعة
التشريعات القمعية التي أقرها أو أصدرها مجلس النواب منذ تشكيله. فبدل أن يكون
رقيبا على السلطة التنفيذية تحول البرلمان إلى تابع لها ورقيب على الشعب. وبينما
كان من المفترض أن يكون مدافعا عن الحريات ولاسيما حرية التعبير، صار أكثر عداء
للصحافة والإعلام، وتبريرا للممارسات القمعية بحق خصوم النظام ومعارضيه، مما
أفَقَدَ البرلمان مصداقيته لدى قطاعات عريضة من المصريين لم تعد أحاديثها تخلو من
تهكُّم وسخرية من أدائه، وتساؤلات حول ما إذا كان هناك برلمان حقّا.
كل ما سبق يجعل من مجلس النواب الحالي، ليس
فقط عقبة أمام أي تحول ديمقراطي مستقبلي في مصر، بل أحد عوامل عدم الاستقرار
السياسي والاقتصادي والاجتماعي.. وشريكا أساسيا في كل جرائم العسكر تجاه الشعب
المصري. فهو أول من يؤيد كل جرائم النظام في حق المصريين، و يبارك الحرب السرية
التي يديرها السيسي على أهل سيناء، ويبارك دعم السيسي لبشار الأسد وحفتر ويبارك
التمدد الشيعي في العراق وسوريا!! لقد أيّد كافة سياسات السيسي الاقتصادية التي
أوصلت الشعب إلى مرحلة المجاعة، مما أدى إلى تفشي جرائم السرقة بالإكراه، والقتل
من أجل السرقة، وكثير من هذه الجرائم يسمع بها الناس ولا تغطيها وسائل إعلام
العسكر، وعليه لا يمكن اتهام برلمان السيسي بالتقصير فقط، بل هو شريك أساسي في كل
جرائم العسكر تجاه الشعب المصري.