المؤسسات الديمقراطية التي وضعت بعد الثورة لاتزال ضعيفة ومهددة، والمعضلة الأبرز منذ ثماني سنوات تكمن في تفاقم الصعوبات الاقتصادية، وتدهور الأوضاع الاجتماعية في تونس، الأمر الذي يزيد من منسوب الاحتقان الشعبي ويشحذ الحركات الاحتجاجية. وإن كنا نعلم أن الحكومات المتعاقبة لم يكن أداؤها مقبولا ضمن معطى الحكم، بما يعنيه من إيجاد استراتيجيات حقيقية للتنمية، ومحاربة الفساد، والحد من الدين الخارجي على قاعدة الحلول الذاتية للنهوض بواقع البلاد والعباد. إنه من العار أيضا أن يخذل العالم تونس ولا يلتفت لدعم التجربة الديمقراطية في هذا البلد العربي، فهل يحبذ هؤلاء ديكتاتوريات مستبدة وأنظمة سلطوية؟
تونس أسقطت فكرة الغرب الذي يصر على أن العرب
غير مؤهلين للديمقراطية، ولا يستطيعون التعامل معها، وأن كيانهم الصهيوني ديمقراطي
في محيط من الدول المستبدة، ورغم أن أمامهم تجربة تناقض تشكيكهم، وتسعى لترسيخ
الديمقراطية والتعددية السياسية بشكل تابعه الجميع في مناسبات انتخابية متكررة، مع
ذلك لا يتم دعمها، بل هم أنفسهم يساهمون في تكبيلها اقتصاديا ويفاقمون مشاكلها
المالية، بشكل يدعو للتشكيك في مدى صدق مواقفهم من الديمقراطية خارج حدودهم.
وعلى الرغم من الشعارات الرنانة التي تتعلق
بالمبادئ الإنسانية من قبيل، الحرية وحقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها،
فإن المصلحة هي التي تجعلهم يلتفتون إلى بلدان المنطقة، ودون ذلك مجرد تسويق
متهافت لا يُحمل على اليقين. ولم يكن الموقف الأمريكي والغربي عموما من الثورة
التونسية ليتضح لولا تأكدهم من سقوط نظام بن علي، وخسارتهم لوكيل خدم مصالحهم
بتفان، وانفتح إيجابا على إسرائيل، وبمثل ما أدانوا هذا النظام بعد أن أطاحت به
الثورة، كانوا يمدحونه قبل ذلك، والأمر ينسحب على كل أنظمة الاستبداد والقهر التي
يمدونها بأسباب القوة والتمترس في مصادرة واضحة لتطلعات الشعوب، وذلك بتبرير سخيف
يجري على ألسنتهم بالأمس واليوم، وهو حماية الاستقرار في المنطقة العربية، التي لم
تعرف في واقع الأمر هذا الاستقرار الذي يتحدثون عنه.
تعامل الغرب مع الحالة التونسية يؤكد مرة أخرى
أنهم يخشون قيام ديمقراطية حقيقية في المنطقة العربية.
ومن الجيد أن تندد صحيفة «الفايننشال تايمز»
بهذا الخذلان الغربي للحالة التونسية، عندما عبّرت في افتتاحيتها منذ مدة «عن
الخوف» من أن تنحرف تونس عن مسارها الديمقراطي الحقيقي. فهناك الكثير مما يمكن
فعله لمساعدتها من الخارج في مرحلة انتقالية صعبة. وإن اعتقدت أوروبا وأمريكا أن
تونس هي حالة استثنائية، وأن إجابة تكنوقراطية محددة لمطالب الثورة غير ممكنة،
فعليها أن تقدم المساعدة اللازمة، لأن البلد بحاجة لدفع اقتصادي. وما يدعو
للاستغراب فعلا أن لا يكون هذا البلد على أجندة الولايات المتحدة والقادة
الأوروبيين، مع أنهم صفقوا للثورة، وتكلموا كثيرا عن أهمية بقاء دولة عربية على
طريق الديمقراطية،
ولكنهم لم يقدموا ما يلزم لإنقاذ هذا «الاستثناء» في محيط إقليمي ملتهب، بل على العكس من ذلك قررت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الحد من قيمة المساعدات المخصصة لتونس، التي تعتبر هزيلة بطبعها، وفي السياق نفسه، تصر المفوضية الأوروبية على إدراج الدولة التونسية في كل مرة ضمن قوائم سوداء تتعلق بنقائص في أنظمة مكافحة غسيل الأموال، وتمويل الإرهاب، وما يستتبع ذلك من تطبيق مراقبة بنكية مكثفة لمؤسسات الاتحاد الأوروبي على العمليات المالية. ويزيد من تكبيلها صندوق النقد الدولي عبر إملاءاته. وتطالب أمريكا وفرنسا بمليارات الدولارات، كتعويض عن أحداث السفارة الأمريكية، وقضية البنك التونسي الفرنسي.
وفي المحصلة لم تقدم الولايات المتحدة،
والاتحاد الأوروبي سوى ضربات موجعة لتونس التي علقت حكوماتها آمالا كبيرة على ما
يسمى «الشريك الأوروبي» و»الصديق الأمريكي»، بعد أن تلقت وعودا بالدعم والمساعدة
لتحصين تجربتها الديمقراطية، ومكافحة الإرهاب وحماية الحدود. وهي قضايا تهم أوروبا
وأمريكا، ومع ذلك لم يدفع «أعداء الإرهاب» باتجاه دعم أمن تونس واستقرارها ونموها
الاقتصادي. ويبدو أن الأمر لا يعدو كونه أكثر من «ثورة تخديرية» بتعبير آلان دونو،
على نحو يدعونا أن نبقى كما نحن لا نغادر أماكننا، ضمن أطر الاستغلال والهيمنة
الإمبريالية، التي تلزمنا التفكير بسذاجة، ورمي القناعات في القمامة، لنصبح كائنات
طيعة يسهل اقتيادها ومبادلتها أو ركنها جانبا. وذلك لتسيير النظام الاقتصادي
الاجتماعي السائد، والقائم على ليبرالية متوحشة، أوصلت إلى انهيار لامحدود.
وتعامل الغرب مع الحالة التونسية يؤكد مرة
أخرى أنهم يخشون قيام ديمقراطية حقيقية في المنطقة العربية، من شأنها أن تعكس
استقلالية لها معنى، تعبر فيها السياسات عن الرأي العام، ومطالب الشعوب. وهي أمور
تقض مضجعهم، لأن السيطرة على الحكام أسهل من السيطرة على الجماهير الواعية التي
تعبئ حركتها. ومن الصعب أن يروضوا حكومات ديمقراطية تنبع من عمق الثورة وأعماق
الشعب، فهم يخشون دائما تداعي قوى هيمنتهم على العالم، وتسلطهم على الأمم ونهبهم
لمقدراتها. ويكفي تونس أن شعبها كسر حاجز الخوف ومرر هذا الشعور الشجاع إلى كافة
شعوب المنطقة التي تعاني القهر والاستبداد والتسلط.
(القدس العربي)