استند القائلون بأن الرجم حد: بأنه حظي بإجماع، سواء من الصحابة، أو ممن يليهم من التابعين، أو من المدارس الفقهية المعتبرة. وهو إجماع يحتاج إلى وقفة، فهل هو إجماع متيقن، أم لا؟ أم أنه إجماع يطلق عليه الأصوليون: الإجماع السكوتي؟
يقول الإمام النووي تعليقاً على قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر: "لقد خشيت أن يطول بالناس زمان، حتى يقول قائل: ما أجد الرجم في كتاب الله": في إعلان عمر بالرجم وهو على المنبر، وسكوت الصحابة عن مخالفته بالإنكار، دليل على ثبوت الرجم(1). وعقّب الإمام السندي عليه بقوله: أراد إجماعاً سكوتياً (2).
حجية الإجماع السكوتي في الرجم:
ونناقش الآن قضية الإجماع المزعومة في القضية، وقد قلنا: إن الإجماع هنا إجماع سكوتي، فلنناقش مدى حجية الإجماع السكوتي.
الإجماع السكوتي عرّفه الإمام الشوكاني فقال: (هو: أن يقول بعض أهل الاجتهاد بقول وينتشر ذلك في المجتهدين من أهل ذلك العصر، فيسكتون ولا يظهر منهم اعتراف ولا إنكار)(3).
أعتقد أن من القضايا التي تحتاج إلى مراجعة كبيرة في باب الإجماع، قضية الرجم، وعقوبات أخرى،
وأما عن حجيته فقال الإمام الشوكاني: (وفيه مذاهب: القول الأول: أنه ليس بإجماع ولا حجة. والقول الثاني: أنه إجماع وحجة. والقول الثالث: أنه حجة، وليس بإجماع. والقول الرابع: أنه إجماع بشرط انقراض العصر. والقول الخامس: أنه إجماع إن كان فتيا لا حكماً. والقول السادس: أنه إجماع، إن كان صادراً عن فتيا. والقول السابع: أنه إن وقع في شيء يفوت استدراكه من إراقة دم أو استباحة فرج كان إجماعاً، وإلا فهو حجة.
والقول الثامن: إن كان الساكتون أقل كان إجماعاً، وإلا فلا. والقول التاسع: إن كان في عصر الصحابة كان إجماعاً وإلا فلا. والقول العاشر: أن ذلك إن كان مما يدوم ويتكرر وقوعه والخوض فيه فإنه يكون السكوت إجماعاً. والقول الحادي عشر: أنه إجماع بشرط إفادة القرائن العلم بالرضا، وذلك بأن يوجد من قرائن الأحوال ما يدل على رضا الساكتين بذلك القول. والقول الثاني عشر: أنه يكون حجة قبل استقرار المذاهب لا بعدها)(4).
وقد ناقش الدكتور وهبة الزحيلي أدلة النافين والمثبتين، ثم قال: (في رأيي: أن أدلة مثبتي الإجماع السكوتي لا تقوى على معارضة معقول المنكرين له، إلا أنه لا يمكن أيضاً فهم إجماعات الصحابة إلا على نحو هذا الإجماع السكوتي. وكذلك نجد كلاً من الحنفية والشافعية يدعي قيام الإجماع على حد شارب الخمر: ثمانين جلدة عند الحنفية، وأربعين جلدة عند الشافعية، ولا يثبت هذا المدعى إلا بطريق الإجماع السكوتي. ويمكن التقريب بين الرأيين بملاحظة نواحٍ ثلاث:
أولاً: السكوت في موضع البيان بيان، والسكوت على رأيٍ اشتهر عنوان الموافقة.
ثانياً: لا بد من أن تكون هناك أمارة على الموافقة والرضا، بحيث يعتبر السكوت بياناً حتماً، عن طريق انتفاء الاحتمالات التي ذكرها منكرو الإجماع السكوتي: ككون المجتهد فرغ من البحث، أو سكت تقية، أو اجتهد ولكنه لم يصل إلى رأي حاسم، حينئذ يكون الإجماع السكوتي حجة. ونظراً لتعذر تحقق انتفاء هذه الاحتمالات اشترط الإمام الشافعي التصريح بالرأي من جميع المجتهدين، وقال: "ولا ينسب إلى ساكت قول قائل، ولا عمل عامل، إنما ينسب إلى كلٍّ قوله وعمله، وفي هذا ما يدل على أن ادعاء الإجماع في كثير من خاص الأحكام ليس كما يقول من يدعيه)(5).
أسباب ادعاء الإجماع:
وهناك دراسة مستفيضة ومهمة حول الإجماع للدكتور صلاح سلطان بعنوان: (الغلو في حجية الإجماع الأصولي.. صوره وأسبابه). وأعتقد أن من القضايا التي تحتاج إلى مراجعة كبيرة في باب الإجماع، قضية الرجم، وعقوبات أخرى، وقد ذكر سلطان أسباب ادعاء الإجماع، فأجملها فيما يلي: (عدم المعرفة الكافية بالنصوص، أو تفسير الاستعمال اللغوي لكلمة الإجماع، أو أجمع، بمعنى الإجماع الأصولي، أو اختلاط مفهوم الشورى بالإجماع الأصولي، أو الرغبة في دحض الخصوم، أو تصور أن عدم العلم بالمخالف يصح أن يكون إجماعاً)(6).
حول الإجماع واستثناء الخوارج منه:
فهناك من قال من العلماء: لا عبرة بمخالفة الخوارج للإجماع. وقد رد الدكتور محمد سعاد جلال على هذا القول، بقوله:
"ولست مقتنعاً بما ذهب إليه أصحاب هذا القول لوجهين:
أحدهما: أنه لا عبرة بقوله: (لا عبرة بخلاف الخوارج في ثبوت الإجماع: فإن الخوارج قسم من الأمة ينعقد الإجماع بها ولا ينعقد بدونها، لأنهم لم يزالوا مسلمين، ولم ينقلوا عن الإسلام أبداً، ولا يخرج عن الأمة التي ينعقد بها الإجماع إلا أصحاب البدع المكفرة المنكرون لشيء من المعلوم ثبوته عن صاحب الشرع بالضرورة، (كالسبأية) القائلين بأن الله حل في شخص علي بن أبي طالب، و(القرامطة) القائلين بإسقاط التكاليف الشرعية عن العالم؛ فهؤلاء وهؤلاء وأمثالهم في الكفر هم الخارجون عن مسمى الأمة الذين ينعقد إجماع الأمة بإسقاطهم.
أما (الخوارج) فلم تكن بدعتهم مكفرة لهم أصلاً، لأنهم لم ينكروا معلوماً من الدين بالضرورة، وإنما كانوا أصحاب آراء سياسية خالفوا فيها الجمهور، وقاتلوا عليها الدولة، وهذا لا يقتضى عزلهم عن الأمة، وتصحيح الإجماع بدونهم. فليس يصح أن يتم الإجماع إلا بهم، وإنهم لمسلمون، وخلافهم في صحة إثبات حكم الرجم خلاف معتد به، ويجب التعويل عليه، بل يجب بأن الخوارج كانوا من أصدق الناس إسلاماً.
وننبه هنا إلى أن حكمنا على عقيدة الخوارج لا يجوز أن يستمد من أقوال معاصريهم فيهم، من أهل السنة والشيعة الذين هم من خصومهم، فإن هؤلاء وهؤلاء محمولون على غوارب العصبية، وإرادة التجريح التي تمنع الثقة بهم، إنما نستمد حكمنا على عقيدة الخوارج من النظر الموضوعي لعقائدهم الثابت نقلها عنهم في ضوء قواعد الإسلام الأساسية، وأحكام الشريعة الصحيحة المقررة بعيداً عن تأثرنا بخليط الموروثات التاريخية التي وصلت إلينا حاملة رواسب الأحقاد المذهبية"(7).
فدل ما نقلناه ومن نقاشات حول ما ادعي من إجماع في قضية الرجم، كلام لا يثبت علميا، بل لا يتفق عليه الأصوليون، كما رأينا في قضية الإجماع السكوتي، والذي ذكر فيه الإمام الشوكاني اثني عشر قولا، والراجح أنه ليس حجة، فسقط ما يستدل به القائلون بالرجم، أنه مجمع عليه.
الهوامش:
1 ـ انظر: صحيح مسلم بشرح النووي (11/192) تعليقاً على الحديث رقم (4394).
2 ـ انظر: سنن ابن ماجة بشرح السندي (3/225).
3 ـ انظر: إرشاد الفحول للشوكاني ص: 84 طبعة الحلبي، وص: 311 طبعة ابن كثير.
4 ـ انظر: إرشاد الفحول للشوكاني، ص: 85،84، طبعة الحلبي؛ وص: 311-315، طبعة ابن كثير.
5 ـ انظر: أصول الفقه د. وهبة الزحيلي، طبعة دار الفكر (1/552-558). وانظر: المستصفى 1/121، الإحكام للآمدي 1/129، شرح العضد لمختصر المنتهى 2/37، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/163 وما بعدها، التقرير والتحبير 3/101 وما بعدها، فواتح الرحموت 2/232، كشف الأسرار 2/948 وما بعدها، التلويح على التوضيح 2/41، غاية الوصول 108، مرآة الأصول 2/259، روضة الناظر 1/381، الإبهاج 2/254 وما بعدها، شرح الإسنوي 2/375، إرشاد الفحول 74، المدخل إلى مذهب أحمد، مسلم الثبوت 2/183، الإجماع بين النظرية والتطبيق للدكتور أحمد حمد ص: 83 ـ 86.
6 ـ انظر: الأدلة الاجتهادية بين الغلو والإنكار للدكتور صلاح سلطان، ص: 266.
7 ـ انظر: مقال (لا يتعين رجم الزاني المحصن حداً في شرع الإسلام)، للدكتور محمد سعاد جلال المنشور في مجلة الهلال المصرية الشهرية، العدد الصادر في تموز/يوليو 1981م. ص: 74 ـ 78.
Essamt74@hotmail.com