الكتاب: الباهي الأدغم الزعامة الهادئة.. ذكريات وشهادات وخواطر
الكاتب: إعداد وإشراف وتحرير الدكتور عبد الرحمن الأدغم، مراجعة وتنسيق الدكتور عبد اللطيف عبيد، والأستاذ عادل الأحمر
الناشر: دار نيرفانا للنشر، تونس، الطبعة الأولى تشرين ثاني (نوفمبر) 2019،
748 صفحة من القطع الكبير
يواصل الكاتب والباحث التونسي توفيق المديني في الجزء الثاني من عرضه لكتاب "الباهي الأدغم الزعامة الهادئة.. ذكريات وشهادات وخواطر"، التفصيل في تاريخ الحركة الوطنية التونسية، وحقيقة الخلاف التاريخي بين الزعيمين التونسيين الراحلين الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف.
مكونات الحركة اليوسفية :
تعود جذور الحركة اليوسفية إلـى بدايات هذا القرن حين تشكل الحزب الحر الدستوري سنة 1920، على يد الزعيم عبد العزيز الثعالبي، الذي كان من أركان الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي، والإصلاح الفكري الديني في تونس، وكان متشبثاً بالتراث العربي الإسلامي، كمصدر للتشريع، ومؤمناً بأن العرب أمة واحدة لا بد أن تتوحد. فقد كتب على سبيل المثال في مجلة الشهاب التي كانت تصدر في الجزائر في عدد تموز (يوليو) سنة 1939 تحت عنوان: "الوحدة العربية في طريق التحقيق" ما نصه: "الوحدة العربية كيان عظيم ثابت، غير قابل للتجزئة والانفصال، يشغل قسماً كبيراً من رقعة آسيا الغربية وشطراً من إفريقيا يمتد رأسه في الشرق من المحيط العربي، ويسير مغربا غربا إلـى المحيط الأطلنطي، ويضم في هذا الشطر نصف القارة الإفريقية".
وقد وقف الحزب الحر الدستوري القديم إلـى جانب صالح بن يوسف الذي أصبح يرى فيه مُعَبِّرًا عن تطلعات وأفكار الحزب الدستوري القديم، ومدافعًا عن توجهاته، والزعيم الكبير صاحب الرصيد النضالي القادر على أن يضاهي بورقيبة، والوقوف بندية في وجهه. كما وقفت جامعة الزيتونة المدافعة عن الهوية العربية الإسلامية لتونس إلـى جانب صالح بن يوسف، نظرًالعداوتها التقليدية لبورقيبة بسبب علمانيته وميوله الغربية السافرة.
كان جناح بورقيبة رئيس الحزب الحر الدستوري الجديد المتشبع بالثقافة الفرنسية، والمدافع عن مشروع المستعمر التمديني، والذي ينادي بسياسية المراحل ـ وبمبدأ خذ وطالب ـ الذي يندرج ضمن ما يسميه بفلسفة "التهديد والترغيب" قد استقطب فئات الطبقة الوسطى المدنية والريفية
وانضم كبار الفلاحين الذين مكنهم صالح بن يوسف من العبور إلـى "الاتحاد العام للفلاحة التونسية" إلـى الحركة اليوسفية، بهدف حماية مصالحهم أمام خطر النزعة العمالية الاشتراكية، التي كان يمثلها الاتحاد العام التونسي للشغل الذي تحالف مع الرئيس بورقيبة خلال فترة الانشقاق داخل الحركة الوطنية.
كما انضم أيضاً قسم من جيش التحرير (الفلاقة) الذين لهم ميول عروبية مشرقية إلـى الحركة اليوسفية، بهدف استعادة مكانتهم في معركة التحرير الوطني، واستعادة سلاحهم الذي جردهم منه بورقيبة، ليحصد وحده ثمرة كفاحهم ويحصد تضحياتهم وما بذلوا من دمائهم وأرواحهم.
وكانت البرجوازية التقليدية التونسية ـ التي بدأت آنذاك تتضح معالمها الطبقية والأيديولوجية، وهي تحاول أن تكون وطنية وأكثر راديكالية من فئات الطبقة الوسطى المهزوزة ذات الطابع الإقليمي، وجدت ضالتها في الحركة اليوسفية، لأن هذه الأخيرة كانت تطالب "بتحرير المغرب العربي تحريراً كاملاً، وفي سبيل توحيد سوق المغرب العربي".
وفيما جرَّت الحركة اليوسفية وراءها في تونس القوى التقليدية المتداعية، المتعلقة بالماضي والمتخوفة من المستقبل، والمدافعة عن الهوية العربية الإسلامية للبلاد، كان جناح بورقيبة رئيس الحزب الحر الدستوري الجديد المتشبع بالثقافة الفرنسية، والمدافع عن مشروع المستعمر التمديني، والذي ينادي بسياسية المراحل ـ وبمبدأ خذ وطالب ـ الذي يندرج ضمن ما يسميه بفلسفة "التهديد والترغيب" قد استقطب فئات الطبقة الوسطى المدنية والريفية، وكذلك العمال والأجراء والموظفين المنضوين تحت لواء الاتحاد العام التونسي للشغل بزعامة أحمد بن صالح، الذي تقدم ببرنامج اقتصادي واجتماعي ذي طابع إصلاحي أهم ركائزه تأميم الشركات الاستعمارية الفرنسية وبعث قطاع تعاضدي خاصة في الفلاحة مع سن قوانين اجتماعية عصرية، والاعتماد على تدخل الدولة في الميدان الاقتصادي على أساس تخطيط يحدد أهداف ووسائل لتحقيق التنمية الاقتصادية.
كان موقف صالح بن يوسف قد ساعد موضوعيًا وإيجابيًا الحكومة التونسية بصفة قطعية في مطالبته بالاستقلال التام. واضطرت فرنسا إلى تفضيل النزعة البورقيبة التي تتمتع بعطف فرنسا ومصداقيتها وتتصف بميلها إلى العالم الغربي وتعاطفها مع فرنسا، وذلك تفاديًا لبن يوسف الذي يمثل مؤتمر باندونغ، حيث شكل انعقاد مؤتمر باندونغ بإندونيسيا في نيسان (أبريل) 1955، حدثا سياسياً هائلاً في كل العالم، حين شاركت فيه كل من الهند والصين ومصر ويوغسلافيا، وحين جسد ذلك المؤتمر خطا سياسياً واضحاً يدعو إلـى مقاومة الاستعمار، ومساندة حركات التحرر الوطني في العالم، وخاصة في شمال إفريقيا، وبانتهاج الحياد إزاء الصراع السياسي والأيديولوجي بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية.
وكان الزعيم صالح بن يوسف قد حضر مؤتمر باندونغ، وهذا ما عزز حضوره السياسي كزعيم وطني، وعزز أيضا علاقاته مع عبد الناصر، وزعماء العالم الثالث آنذاك.
عندما أصبح صالح بن يوسف زعيما لحركة المعارضة للاتفاقيات عام 1955، تلقى الدعم القوي من جانب قيادات الحزب الدستوري ذات الاتجاه القومي المعروف، وخاصة من يوسف الرويسي الذي كان يعتبر مشاركة بن يوسف في حكومة المفاوضات على أساس غير الاستقلال خيانة للالتزامات الوطنية والقومية.
وفضلا عن ذلك، كان لهزيمة الإمبريالية الفرنسية في معركة "ديان بيان فو" في فيتنام في 7 أيار (مايو) 1954، واندلاع الثورة المسلحة في الجزائر في أول تشرين ثاني (نوفمبر) من العام ذاته، الأثر البالغ في تجذير الحركة اليوسفية من ناحية، وفي إجراء الدولة الفرنسية تعديلات على سياستها الاستعمارية القديمة لجعلها مقبولة أكثر من ناحية أخرى.
فعندما أصبح صالح بن يوسف زعيما لحركة المعارضة للاتفاقيات عام 1955، تلقى الدعم القوي من جانب قيادات الحزب الدستوري ذات الاتجاه القومي المعروف، وخاصة من يوسف الرويسي الذي كان يعتبر مشاركة بن يوسف في حكومة المفاوضات على أساس غير الاستقلال خيانة للالتزامات الوطنية والقومية. كما اصطف مندوب الحزب الدستوري في القاهرة إبراهيم طوبال، إلى جانب صالح بن يوسف، حيث أصبح الممثل الرسمي للحزب الدستوري الجديد في لجنة تحرير المغرب العربي.
وكانت لجنة تحرير المغرب العربي قد عقدت اجتماعاً بالقاهرة بتاريخ 14 أكتوبر 1955، واتخذت فيها القرارات التالية :
أولاً ـ فصل الديوان السياسي للحزب ورئيسه الحبيب بورقيبة من عضوية اللجنة.
ثانياً ـ اعتبار أن السلطات التي للديوان السياسي قد انتقلت إلـى يد الأمين العام صالح بن يوسف، نظراً لأنه هو الذي بقي محافظاً على المبادئ الاستقلالية التي انضم الحزب على أساسها إلـى لجنة تحرير المغرب العربي.
ثالثاً ـ يبقى ممثل السيد صالح بن يوسف (إبراهيم طوبال) هو الممثل الرسمي للحزب الدستوري في لجنة تحرير المغرب العربي إلـى أن يتمكن جمهور الحزب من البت في مصير الديوان السياسي الحالي وتعيين المسؤولين الجدد في سياسة الحزب وذلك في جو بعيد عن الإرهاب الفرنسي وضغط الديوان السياسي الحالي.
هذه القرارات هدفها حماية الحركة الاستقلالية بالمغرب العربي من التوجه الاستعماري الذي بدأ يتسرب إلـى بعض القادة، وهي تؤمن بأنه لا خلاص لتونس إلا بالعودة إلـى كفاحها المستمر في سبيل تحقيق الاستقلال الصحيح متضامنة في ذلك مع شقيقتيها مراكش والجزائر .
وهكذا، تبلور خط الحركة اليوسفية، باعتباره تياراً وطنياً وعروبياً يقوده الزعيم صالح بن يوسف، الذي استطاع أن يشق الحزب الحر الدستوري التونسي إلـى قسمين: الديوان السياسي بزعامة الحبيب بورقيبة، والأمانة العامة بزعامة صالح بن يوسف. وتلقت الحركة اليوسفية دعماً قوياً من جبهة التحرير الوطني الجزائرية بإمضاء محمد خيضر، ومن حزب الاستقلال المغربي بإمضاء علال الفاسي.
مؤتمر صفاقس (15 ـ 18 تشرين ثاني / نوفمبر 1955)
افتتح مؤتمر الحزب الحر الدستوري في صفاقس يوم 15 تشرين ثاني (نوفمبر) 1955، ودام أربعة أيام، في غياب صالح بن يوسف رغم أنه قد تمت دعوته للمؤتمر، و المنجي سليم الذي مكث في تونس يعمل في وزارة الداخلية، والطيب المهيري (مدير الحزب) بعد نقله إلى باريس للعلاج (بعد غيبوبة متأتية من مضاعفات مرض السكري، وعمره يناهز 31 سنة)، واتفق الجميع على أن يترأس السيد الباهي الأدغم المؤتمر.
يقول الباهي الأدغم: "اتفق الجميع على أن أترأس المؤتمر. وانتخب الدكتور أحمد علولو أصيل مدينة صفاقس، رئيسًا شرفيًا له. وسيرت الأمور على منوال الجمعية العامة للأمم المتحدة، كما اقترحت التصويت برفع الأيدي، فوقع الإجماع على التصويت السّرّي، الشيء الذي أثار مخاوف بورقيبة، ولكنّ المؤتمر صوت لفائدة اتجاهه. وقد رأى الحاضرون في تعييني رئيسًا للمؤتمر عنوان ثقة، وهو ما أكَّده لي الحبيب بورقيبة نفسه عندما قال لي: "ماكنت أظنّ أنّك ستكون هكذا. أنا أعرفك منذ عام 1930، و1932 و1937 و1938، وأعتقد أنّك اكتسبت خبرة. والآن علينا أن نحدّد طريقة العمل".
بفضل تحالفه مع الاتحاد التونسي للشغل، كسب بورقيبة المعركة السياسية التي حسم أمرها في مؤتمر صفاقس (تشرين ثاني / نوفمبر 1955) الذي انتهى إلـى نبذ الحركة اليوسفية، وتجريدها في الوقت ذاته من جميع أسلحتها السياسية
ويضيف الباهي الأدغم قائلاً: "تحصلت في هذا المؤتمر على جانب لا بأس به من الإجماع، وانتخبت أثناءه كاتبًا عامًا للحزب بالأغلبية الساحثة (93%)، واقترح علي منصب وزاري في الحكومة الجديدة لا على أساس أنني من مناصري الحكم الذاتي بل على أساس المطالبة بالاستقلال. وبالفعل دخلت الحكومة وسُمَّيْتُ نائب رئيس حكومة الطاهر بن عمّار. وقد رشحني كذلك الاتحاد العام التونسي للشغل وأحمد بن صالح للمنصب المذكور كوزير دولة، وهو لم يرق للطاهر بن عمّار. وبدأت المفاوضات في شهر يناير/ جانفي 1956"(ص339 ـ 340 من الكتاب).
وبفضل تحالفه مع الاتحاد التونسي للشغل، كسب بورقيبة المعركة السياسية التي حسم أمرها في مؤتمر صفاقس (تشرين ثاني / نوفمبر 1955) الذي انتهى إلـى نبذ الحركة اليوسفية، وتجريدها في الوقت ذاته من جميع أسلحتها السياسية، وبرفضه القطيعة مع فرنسا، كسب بورقيبة المعركة العسكرية بفضل إبادة القوات الفرنسية لكل من حمل السلاح ضد نظام "الاتفاقيات".
وبفضل آلة القمع الرهيبة التي كونها بورقيبة من "لجان اليقظة" و"المحكمة الشعبية" وتسخير كل أجهزة الحزب ودواليب الدولة ضد كل من عارض النظام الجديد، كسب بورقيبة بقية المعارك الاقتصادية والاجتماعية والثقافية..
ويتعجب "شارل سوماني" في مذكراته كيف أنَّ نفوذ بورقيبة وسلطته التي كانت مطلوبة ومرغوباً فيها، يضطر إلـى فرضها بالقوة والإرهاب والمحاكم الخاصة! إن هذا الإشكال يعبر عن الهوة السحيقة التي كانت موجودة بين "النخبة السياسية"، وتونس الأعماق في تلك الفترة. فلماذا تخلت "الطبقة السياسية" عن الخطاب الشعبي الذي كانت تستخدمه لمقتضيات الحركة الوطنية، وكشفت عن"وجهها الحقيقي" كانت القطيعة شديدة مع قطاعات عريضة من الشعب.
كان الاتحاد العام التونسي للشغل يمثل رأياً مستقلاً عن رأي الحزب الدستوري الجديد، هو رأي تيار الطبقة الوسطى الإصلاحي والعمال. وكان الاتحاد يدافع عن فكرة استقلاليته كقوة تنظيمية عن هذا الحزب وسياسته الاحتوائية، حيث كانت تمثل مركزية مسار بن صالح في أفقه السياسي، الذي يحده سقف بناء مجتمع على غرار الديمقراطيات الاسكندنافية. وفي خضم الأزمة الحادة التي عرفتها الحركة الوطنية اليوسفية بسبب اتفاقيات الحكم الذاتي، تحالف الاتحاد العام التونسي للشغل مع جناح الحبيب بورقيبة.
إقرأ أيضا: الاستقلال التونسي وجذور الخلاف بين بورقيبة وبن صالح