تضع الثورة الشبابية التي أطاحت بنظام الرئيس المعزول عمر البشير، منظمات المجتمع المدني في السودان على المحك، وتختبر توجهاتها الفلسفية للتنمية، وقدرتها على إثبات جدوى الأفكار المستحدثة في عملية التغيير الاجتماعي المرافقة لحالة الانتقال السياسي الذي تشهده البلاد حاليا.
وتبدو الأوضاع حاليا مواتية لعمل منظمات المجتمع المدني بعد سنوات طويلة عانت فيها من التقييد والملاحقات الأمنية والحملات الحكومية المضادة، بيد أنها ما تزال تواجه بأسئلة جوهرية، إن كانت النظريات الغربية في التنمية سوف تلقى القبول في المجتمعات السودانية الحريصة على بنيتها الروحية العقدية والفكرية والثقافية، خصوصا بعد أن أظهر تقرير صادر حديثا لمؤشر استدامة منظمات المجتمع المدني على ضعف علاقة المنظمات بالمجتمع المستهدف بالتغيير.
أغلبية منظمات المجتمع المدني ضعيفة في بناء صورتها العامة وفي استخدام وسائل الإعلام لمتابعة أهدافها،
وفي حديث مع "عربي21" قال المدير التنفيذي لـ"سوديا" عبد الرحمن المهدي: "إن التقرير صادر عن عام 2018م وجاء في ظرف حرج وهي المرة الأولى منذ بداية دخول السودان ضمن هذا التقرير، ولأول مرة تستطيع المنظمة طباعة وتوزيع التقرير دون خوف من الاعتقال أو احتمال اغلاق مكاتبنا وايقاف نشاطنا والغاء تسجيلنا بعد ثورة الشباب ومنظمات المجتمع المدني التي أطاحت بالرئيس عمر البشير وحكمه الذي استمر ثلاثين عام".
ويكشف المؤشر أن انعدام الثقة في منظمات المجتمع المدني ناتج عن حملة الحكومة المقصودة والمستدامة خلال السنوات الأخيرة لإشانة سمعة منظمات المجتمع المدني من خلال تصويرها على أنها تسيطر عليها الأجندة الخارجية، لكن مع تنامي الاحتجاجات وتدهور الثقة في الحكومة بدأ الجمهور في تغيير نظرته لمناصرة منظمات المجتمع المدني واتجه نحوها بشكل متزايد كمصدر موثوق للمعلومات.
لكن التقرير يؤكد على أن أغلبية منظمات المجتمع المدني ضعيفة في بناء صورتها العامة وفي استخدام وسائل الإعلام لمتابعة أهدافها، وأن استراتيجيات التواصل وجهود الوضوح تعتبر نادرة في قطاع منظمات المجتمع المدني، فالرسائل عادة ما تكون بالمناسبات ومتقطعة وتتم غالباً عبر وسائط التواصل الاجتماعي عوضا عن النشر المنتظم في شكل تقارير سنوية أو رسائل إخبارية.
انعدام الثقة في منظمات المجتمع المدني ناتج عن حملة الحكومة المقصودة والمستدامة خلال السنوات الأخيرة لإشانة سمعة منظمات المجتمع المدني
كما يُعد تقرير المؤشر من الوثائق الهامة التي تعطي معلومات قيمة عن واقع منظمات المجتمع المدني في السودان، ويعرض الجوانب المفتاحية للمنظمات، ويتيح الفرصة لدعم وتطوير هذا القطاع في هذه الفترة الهامة من تاريخ السودان.
عولمة المجتمع الأهلي:
ولمنظمات المجتمع المدني في السودان تاريخ قديم في العمل الطوعي وفقا للمفهوم القديم (النشاط الأهلي)، بيد أن انتشار الأفكار الغربية في التنمية، ساهم إلى حد كبير في (عولمة المفهوم)، وصار المجتمع المدني إحدى المصطلحات المتداولة في النقاشات الفلسفية والسياسية العامة في السودان.
وحسب سامي عبد الحليم سعيد المتخصص في القانون الدستوري وفي مسائل الإصلاح القانوني وناشط في المجتمع المدني، فإن مفهوم المجتمع المدني ما يزال يختلف من دولة إلى أخرى، وذلك بسبب اختلاف النظرية الأيديولوجية أو النظام السياسي الذي تتبعه الدولة وإلى أي مدى يتيح ذلك النظام السياسي دور للشعب والمجتمع في الاسهام المباشر في التخطيط ورسم سياسات المستقبل في البلاد.
ويرى عبد الحليم في حديث مع "عربي21" أن النظم السياسية التي تقوم على النظام السياسي الآحادي، لا يقبل مشاركة المجتمع المدني في الحياة العامة، على عكس النظم السياسية الديمقراطية التي تتيح لمؤسسات المجتمع المدنية أن تلعب دورا كبيرا في التنمية الاجتماعية والاقتصادية وغير ذلك، مبينا اختلاف المفهوم وأوضاع منظمات المجتمع المدني في الدول الرأسمالية عن الدول الاشتراكية بسبب اختلاف طريقة توزيع السلطات و دور الشعب في كل نظام من تلك الأنظمة.
إلا أن مي هاشم الناشطة المعروفة في منظات المجتمع المدني تشير في حديث مع "عربي21" إلى أن محاولة نقل نظريات التنمية لمنظمات المجتمع المدني وفقا للمفاهيم الغربية يضر عملية التنمية نفسها ويجعل منها أزمة في حد ذاتها، إذ لا بد من تعديل الأفكار المستحدثة للتنمية بما يتناسب مع السياق السوداني دون التزام بالفلسفة فكرية الغربية، موضحة بأن التحدي أمام منظمات المجتمع المدني في صياغة سياسات تلائم المجتمعات السودانية ذات الخصوصية في التعدد والتنوع.
وللمفكر السوداني حيدر إبراهيم بحث عن ظاهرة المجتمع المدني، يشرح فيه أن المفهوم ارتبط بصعود الطبقة البورجوازية التي قضت على النظام الإقطاعي، وأن الظاهرة وليدة ظهور الدولة الوطنية واقتصاد السوق، وكانت وظيفة المجتمع المدني التقليل من تسلط الدولة. واعتبر أن المجتمع المدني نسق اجتماعي يقع في الوسط بين الدولة والعائلة أي بين علاقة موضوعية ولا شخصية تماما، وأخرى شخصية وذاتية.
وبتطور النقابات والاتحادات المهنية والمنظمات التطوعية، يضيف إبراهيم ـ لم يعد الفرد/المواطن تحت رحمة الدولة، كما أنه مع فصل الدين عن الدولة، صارت الكنيسة تبحث عن دور غير سياسي مباشر؛ فاتجهت نحو التبشير والعمل الخيري، وفي علاقة جدلية أي تأثير وتأثر متبادلين مع الديموقراطية، تطور المجتمع المدني بسرعة واكتسب المكانة والدور الفاعلين في الحياة العامة الغربية، وهو ما يساعد على فهم نشأة المجتمع المدني العربي غير الطبيعية والذي تم استزراعه من الخارج مثل الدولة تماما.
ويضيف أن نشأة المجتمع المدني العالمي أو الدولي بدأ بصورة مؤسسية مع نهاية الحرب الباردة وبالتحديد مع سقوط حائط برلين أي بداية تسعينيات القرن الماضي، إذ تصاعدت موجات المطالبة بالديموقراطية وحقوق الإنسان بالإضافة لقضايا ذات آثار عالمية مثل البيئة، والهجرة، والمخدرات، والإيدز. و تنادت منظمات ذات أهداف مشتركة للعمل تحت مظلات موحدة لتبادل الخبرات أو ما اصطلح عليه في المجتمع المدني بالتشبيك (Networking).
ولا يستغرب الدكتور حيدر إبراهيم حين يطلق الكثيرون على مثل هذه العلاقة الإنسانية في العمل الطوعي، ووسائل المساندة والتضامن؛ صفات العمالة والصلات المشبوهة، وذلك، لسبب أن المجتمعات العربية ـ الإسلامية لم تعرف مثل هذا العمل الإنساني المؤسسي والممنهج، وحتى فكرة الأوقاف بين المسلمين أنفسهم، لم يتم تحديثها وتطويرها حتى كادت أن تنسى وتندثر.
مفكرون سودانيون: الدولة الإسلامية مفهوم قابل للتحقّق
هل يملك الإسلاميون نظرية متكاملة للدولة؟ خبراء يجيبون
الدولة الإسلامية.. سيادة سلطة الحق على سلطة العدد