منذ التدخل الإيراني في سوريا، والذي أطلق العنان لمجزرة القرن الجديد؛ وللأمانة قبل ذلك، أي منذ التعاون الإيراني في غزو العراق، وصولا إلى إعدام صدام بتلك الطريقة المثيرة صبيحة عيد الأضحى؛ لم يتوقف الجدل بشأن إيران والموقف منها، ومن ثم علاقتها مع أمريكا، بل الكيان الصهيوني أحيانا.
بداية؛ ولكي لا يخرج علينا هنا قارئ مستجد، لم يسبق له أن قرأ للعبد الفقير، أو تعرّف على مواقفه، فإنني أقول إنني منذ الغزو الأمريكي للعراق، لم أتوقف أبدا عن مهاجمة المواقف الإيرانية، والتحذير من مشروع التمدد المذهبي الإيراني. ولي في هذا السياق مئات المقالات (الرقم ليس للمبالغة)، وآلاف التغريدات، فضلا عن لقاءات تلفزيونية تابعها كثيرون، وقفت خلالها أمام إيرانيين، وأمام عدد من الأبواق، وكل ذلك يمكن العثور عليه في "غوغل" أو "يوتيوب"، ومواقع التواصل.
رغم ذلك، فإنني لم أتورط يوما في ذلك الخطاب السطحي البائس الذي يقول إن إيران حليف لأمريكا، فضلا عن الكيان الصهيوني. وحتى عندما كنت أفضح لقاء الطرفين في بعض المحطات، وهذا طبيعي في عالم السياسة، لم أردد تلك المقولة السطحية عن التحالف بينهما، لأنني أعرف السياسة وتعقيداتها منذ 4 عقود، وأعرف أن لقاءً هنا أو هناك تفرضه معطيات معينة، لا يعني أن هناك تحالفا بين الطرفين المعنيين، إذ يحدث أن يكون لقاء هنا واقتتال هناك. وهذه هي السياسة في الغالب؛ مركبّة ومعقّدة، ولا يمكن النظر إليها من خلال عامل واحد، أو زاوية واحدة.
في سياق تبرير تلك المقولة السطحية عن تحالف إيران مع أمريكا، يتم الحديث عن معطيات أهمها، خدمة الغزو الأمريكي لأفغانستان، ومن ثمّ العراق، لإيران، ومن ثم الدعم الأمريكي لمليشيات الحشد الإيرانية التي واجهت تنظيم الدولة.
والحق أن مسلسل العداء الأمريكي لإيران لم يتوقف منذ الثورة عام 1979. وحتى بعض الدعم أيام الحرب العراقية الإيرانية، كان بقصد الاستنزاف، لأن واشنطن كانت تدعم الطرف الأضعف في كل مرحلة، لكي تستنزفهما معا (تبيع السلاح ولا تدعم مجانا للدقة).
وللتذكير فقط، فإن ذلك جزء من إعلان الحرب على أية دولة تريد الصعود وامتلاك القوة. بل إن أمريكا والغرب لم يسمحوا لشاه إيران، وكان تابعا بأن يمتلك القوة النووية، كما لم يُسمح لأي دولة عربية بذلك (نووي وكيماوي صدام أكبر مثال)، حتى من تلك القريبة من أمريكا والغرب (الصواريخ البالستية محظورة كذلك).
من أسباب العداء الأمريكي لإيران، بجانب إرادتها كسر ميزان القوى الاستراتيجي الذي يريد الغرب بقاءه مختلا لصالح الكيان الصهيوني، هو الموقف من القضية الفلسطينية
والتي رأى فيها الخميني مدخله لقلب العالم الإسلامي، وعلى هذا سار خلفه خامنئي، وإلا فهل جرؤ أي أحد باستثناء إيران على مد المقاومة الفلسطينية بالسلاح غير إيران؟ وحتى ياسر عرفات رحمه الله، حين قرر أن يتبنى المقاومة بعد يأسه من مسار أوسلو، ذهب لإيران، وكانت سفينة "كارين إيه" التي جاءت بالسلاح الإيراني، والتي كانت واحدة من أسباب قرار التخلص منه بعد استيلاء الصهاينة عليها.
هل ينفي ذلك حقيقة المشروع المذهبي لإيران؟
كلا بكل تأكيد، وقد قلت إن قناعة الخميني هي أن قضية فلسطين هي مدخل قلب العالم الإسلامي، وبالتالي فهي جزء من مشروع التمدد، وليست شيئا بعيدا عنه، وهو مشروع أسفر عن وجهه أكثر بعد السيطرة على العراق.
منذ محطة غزو العراق، والتعاون تاليا مع الاحتلال، ومرورا بإعدام صدام، كما أشرنا من قبل، وحتى التدخل في سوريا بعد ربيع العرب، انفجرت مشاعر الغالبية في المنطقة بالعداء لإيران. وفيما بقي في حدود متدنية نسبيا في المحطات الأولى، فإنه ما لبث أن تصاعد بعد التدخل العدواني في سوريا، وتصاعد بعد انقلاب الحوثي على ثورة الشعب في اليمن.
هكذا أصبح الحشد المذهبي في ذروته، وتمكّنت إيران من تحويل السنّة في المنطقة إلى طائفة؛ هم الذين لم يكونوا كذلك في تاريخهم، حيث اعتبروا أنفسهم الأمة التي تحتضن كل الأقليات.
وحين يحدث ذلك، فإن العقل ما يلبث أن يغيب، وتحضر الغرائز، لأن الضحية لا يقبل أن يرى أي جانب جيد في قاتله.
وما فعلته إيران في العراق وسوريا واليمن، ثم لبنان (ذروته اجتياح بيروت في أيار 2008، وراهنا الموقف من الاحتجاجات الشعبية)، كان أكبر من قدرة الغالبية في المنطقة على الاحتمال،
وانتشرت في أوساطها المشاعر المذهبية الصارخة، رغم وجود قلة شيعية ترفض سياسات إيران وتجاهر بذلك، وهل إن ما يجري في العراق يثبت ذلك.
كل ذلك هو ذنب إيران بالدرجة الأولى، بجانب أدواتها بطبيعة الحال. وحين تنقلب هي حتى على أهم شعاراتها (مثل ثنائية الحسين- يزيد)، وتقف بجانب طاغية في سوريا ضد الشعب، وتسرق ثورة شعب رائعة في اليمن، وقبل ذلك حشرها عرب العراق السنّة في زاوية الأقلية المضطهدة، واستهداف سنّة لبنان (باغتيال الحريري وحتى أيار 2008، وما بعد ذلك)، فمن الطبيعي أن يفجّر كل ذلك أقوى المشاعر المذهبية.
كل ذلك غيّب التحليل المنطقي للأحداث، وأشاع مقولات التحالف الأمريكي الإيراني، وحتى الصهيوني في بعض الأحيان، ولكن هل ذلك حقيقي بالفعل؟
كلا بكل تأكيد، فالعداء كبير، وما هذه العقوبات الأمريكية الرهيبة التي هي شكل من أشكال الحرب سوى أحد الأدلة على تناقض إيران مع أمريكا والكيان الصهيوني. ولو تخلّت إيران عن مشروع الصواريخ البالستية، وقبل ذلك النووي (تماما)، وغيرت موقفها من القضية الفلسطينية، فستُرفع العقوبات فورا، وستكون العلاقة في أفضل حالاتها، وقد تسبق العلاقة مع "دول الاعتدال" العربية، مع أن تشجيع التناقض بين الطرفين سيبقى جزءا من لعبة الاستثمار المعروفة من قبل القوى الإمبريالية.
يقول قائلهم، ولكن أمريكا هي من سلّم العراق لإيران. وهذا كلام سطحي بالطبع، لأن أمريكا جاءت إلى العراق من أجل "إعادة تشكيل المنطقة"، بتعبير كولن باول، وليس من أجل تسليمه لإيران، ولكنها اضطرت للتحالف مع القوى الشيعية، هربا من المقاومة السنيّة، وأكمل ساسة العرب السنّة بمراهقة أكثرهم، وكذا تنظيم الدولة المأساة، ومنحوا أتباع إيران فرصة السيطرة على العراق. ولو نجح مشروع الغزو كما خطط له المحافظون الجدد، لكانت إيران أول المستهدفين، وحتى سوريا، وصولا إلى كل المنطقة، وإلا فلماذا دعم بشار الأسد المقاومة السنيّة في العراق، وكانت المفخخات تأتي من سوريا، وحين بدأ الانسحاب الأمريكي، قام بزج السلفيين الجهاديين الذين تعاون معهم في السجون؟!
يقول أحدهم، ولكن أمريكا دعمت مليشيات إيران ضد تنظيم الدولة في العراق. وهذا مؤكد، لكنه لم يحدث لأجل عيون إيران، بل خوفا من التنظيم وامتداداته، وقد التقت أمريكا مع روسيا وكل القوى الكبرى على ذلك.
ماذا عن المحطة الأخيرة، وقصة الرد الإيراني على اغتيال سليماني؟
هنا تتبدى حالة البؤس السياسي، حين يصل البعض حد القول إن اغتيال سليماني كان لمصلحة إيران (لأنه أنهى مهماته!!)، كأن أمريكا تعمل مقاولا عند خامنئي، وتخلّصه من خصومه (مع أنه كان الأقرب إليه). أما الذي لا يقل سوءا، فهو القول إن الرد الإيراني كان متفقا عليه، ولك أن تعدد أمثلة كثيرة على ما يطرح من حكايات لإثبات النظرية.
إن اغتيال سليماني يمثل ضربة كبيرة لخامنئي تحديدا، لأن هناك قادة من الصعب تعويضهم
أما من حدّد طبيعة الرد، فليس الاتفاق، بل الحسابات، ولا يُستبعد أن توقيت الضربة قد جرى تسريبه، كي لا تقع خسائر كبيرة، ويتدحرج الأمر إلى حرب لا تريدها إيران، مع أن أمريكا لا تريدها أيضا، بدليل صمتها على استهداف قاعدة "عين الأسد"، الأمر الذي لو حدث في أزمنة سابقة كما في التسعينيات وحتى غزو العراق، لكان الرد عليه مدويا، حتى لو لم يسقط أي قتيل.
كل ما سبق ليس مديحا لإيران، ولن ينفعها في شيء، فما فعلته في سوريا خدم الصهاينة أكثر من أي شيء آخر، حين حوّل البلد إلى ثقب أسود استنزف الجميع، واستنزفها هي أيضا، وضرب ربيع العرب. ويكفي أنها استعدت غالبية الأمة، لكنه كلام ضروري كي لا يتواصل ترديد الهراء الذي يخدم إيران ولا يضرّها، لأن محاربة العدو بالأكاذيب المفضوحة يخدمه ولا يضرّه.
لا خيار أمام هذه الأمة إلا مواجهة الكيان الصهيوني، ومواجهة عدوان إيران في آن، لا سيما أن الأخيرة التقت مع أنظمة الثورة المضادة على محاربة ربيع العرب، وأشواق الأمة في الحرية والتحرر، وما فعلته في سوريا وضرب ربيع العرب هو المثال الأبرز، بجانب ما تفعله راهنا في العراق بدعم طبقة سياسية فاسدة أهلكت الحرث والنسل، فضلا عن الحريق الذي أشعلته في اليمن بسرقة ثورة شعب رائعة.
ولن يُلجَم عدوان إيران إلا بتبني قضية الأمة في فلسطين، ومواجهة مشروع الصهاينة الذي يمثل خطرا محدقا، دون الدخول في جدل بلا معنى حول أيهما أخطر. أما محاربة إيران بالهراء، ومن خلال اللقاء مع الصهاينة، فلن يكون إلا خدمة لها، سواء خسرت المواجهة الراهنة مع أمريكا، أم ربحتها؛ ولو جزئيا.