لازالت الجامعات العلمية وروادها يمثلون محور اهتمام الساسة وقادة العالم على الرغم من هيمنة رأس المال، وتراجع مستويات التعليم في مختلف أنحاء العالم. ومع أن ترتيب الجامعات العربية كان ولا يزال يتذيل التصنيقات الدولية لسلم الجودة، فإن ذلك لم يحل دون استمرار الاهتمام العربي الرسمي بالتعليم، وبذل المزيد من الاستثمار فيه.
وعلى الرغم من أن ثورة الاتصالات التي أحالت العالم إلى قرية صغيرة، قد أثرت سلبا على أهمية الكتاب وتداوله في مختلف أنحاء العالم، فإن العالم العربي، ونظرا لم يعيشه من ظروف اقتصادية وسياسية وأمنية صعبة، قد كان أكثر تأثرا بهذه التحولات لجهة تراجع مستوى الاهتمام بالكتاب وأهله في مقابل شيوع ثقافة "الوجبات السريعة"، وغدت وسائل الإعلام والمؤسسات الرسمية أكثر احتفاء بالفنانين منها بالعلماء وصناع الأجيال.
قبل عدة أسابيع شهد المغرب حدثا علميا لافتا، تمثل في توشيح نخبة من الأكاديميين وأساتذة التعليم العالي بأوسمة وطنية تقديرا لما قدموه في بناء الأجيال المتعاقبة في المغرب.
الدكتور محمد الشرقاوي، أستاذ تسوية النزاعات الدولية في جامعة جورج ميسن في واشنطن، وباحث أول بمركز الجزيرة للدراسات، خص "عربي21" بهذه المقالة عن الجامعات المغربية، ودور علمائها في نهضة بلادهم، وإسهاماتهم في مجالات البحث العلمي والأكاديمي على المستوى الدولي.
لحظة ذات رمزيات
هي لحظةٌ ذاتُ رمزيات متعدّدة عندما يحضر منطق التقدير وبُعد النّظر لدى القصر الملكي ووزارة التعليم العالي في المغرب، بعد طول تكابر وتجاهل، لنخبة أكاديميين متمرّسين في التدريس ساهموا في تكوين أكثر من جيل من خريجي الدراسات العليا في الجامعات المغربية.
ولحسن الحظ، عادت البوصلة تصحّح الرؤية إزاء نخبة التنوير والبحث العلمي بضرورة الاعتراف بمساهمة رجال ونساء الفكر والمعرفة في التنمية الحقيقية التي تقتضي الاستثمار في الإنسان وعقله وقدراته الذهنية أوّلا، بعد أن تماهت الألوان وضاعت الفوارق بين نخبة الألمعية الثقافية وركاب "الطريق السّريع" إلى اقتناص الفرص.
في لحظة سريالية في مسرح اللامعقول، تقف دنيا باطما جنبا إلى جنب مع الطّاهر بن جلون في مغرب متنافر مع ذاته ومعقّد بسكيزوفرينيا الازدواجية بين الأدب الرفيع وفنّ "رَاهَا ناضتْ". ويتكرّر مشهد باطما أكثر من مرّة لصالح من تزلّفوا بأناشيد "العام زين" ومن "تفنّنوا" في شطحات سقط المتاع.
انقلب المشهد أخيرا، وظهرت على الشاشة الكبيرة أسماء وصور شخصيات أكاديمية تعمل في صمت بعيدا عن الضجيج الإعلامي أو الهرولة إلى الأضواء في احتفالية تسليم أوسمة "الاستحقاق الوطني من الدرجة الممتازة". وجاء في ثنايا خطاب وزير التعليم العالي والبحث العلمي سعيد امزازي ما يعيد للجامعة المغربية بعد الاعتبار بالثناء على هؤلاء المحتفى بهم: أستاذ من كلية الحقوق في السويسي، ثلاثة من كلية الحقوق في أكدال، وأستاذة من كلية الحقوق في سلا.
كان المشهد غزير الدلالات في تقدير هؤلاء الأساتذة الخمسة، وكانت أسارير السيد امزازي وابتسامته العريضة تنبئ عن الثقة بالنفس هذه المرة في قراءة خطابه والمرور بسلامة عند لفظ "المتوّجين". هي دائما لحظة الشعور المشترك بالطاقة الإيجابية وبشحنة المروؤة والرقيّ الحضاري في هذه الاحتفالية بالفكر والإبداع المغربي.
مع انتشار الخبر السارّ، وجدتُني أكتب إلى أحد هؤلاء المحتفى بهم بكل استحقاق صديقي الدكتور فؤاد بن مخلوف عبر واتساب عبارة قصيرة لكنّها عميقة المغزى: "لحظة ألمعية فكرية وتأكيد للقامة الذاتية وإنْ تأخّر التّقدير. تهاني وفخري بصديق يستحقّ الأفضل."
الإشعاع الحقيقي
لم تكن مجاملةً عابرة، ولا إيماءةً تحتّمها لحظة التتويج، بل بعضٌ من كلٍّ وافرٍ لديّ من التقدير والاعتزاز بصداقة ودّية وفكرية وأكاديمية بيننا تتعرّج نقاشاتها، في أكثر من مناسبة داخل المغرب وخارجه، بين عدد من القضايا المثيرة سياسيا وثقافيا، وسبل استعادة الإشعاع الحقيقي إلى الجامعة المغربية، والحلم بموجات جديدة من النبوغ المغربي.
هو متحدّث خافتُ النبرة، قويُّ الملاحظة، سريعُ البديهة. وخلف هذا المزاج المتصالح مع الذات، أُكْبِر في الدكتور بن مخلوف ثلاث خصال حميدة قلّما تجتمع في شخصية واحدة: حرصٌ على رصانة الفكر والبحث العلمي، وسموّ الأخلاق في التعامل مع الآخرين بغضّ النظر عن تدرّج مقاماتهم في المجتمع، وانفتاحٌ ذهني على جديد العصر وتحولات تركيب المعرفة عبر تقاطعات متنامية بين مختلف التخصصات والتجارب الأكاديمية العربية والفرنسية والانجلوساكسيونية. هي ثلاثية تتلاقى فيها رصانة الفكر والأخلاق والاجتهاد الفكري، فتستخرج من الإنسان أفضل ما فيه وأروع ما يقدّمه إلى مغرب القرن الحادي والعشرين.
قبل أكثر من قرنين، كتب الفيلسوف الألماني إمانويل كانط يقول: "لا تفعل أو تتصرّف إلاّ بما يتّفق مع المبدأ الّذي تريد أن يصبح قانونًـا عامًّـا للطّبيعة." وكلّما ارتفع منسوب العلم والأخلاق والاجتهاد لدى الدكتور بن مخلوف، ازداد ميله التلقائي نحو التواضع ونكران الذات لديه، وكبُر مقامه وشموخه الإنساني والعلمي في أعين أصدقائه وزملائه.
تخرّج الدكتور بن مخلوف من جامعة نيس بدكتوراه في القانون بميزة "مشرف جدا" وتهاني اللجنة حول موضوع "القانون الدولي والتجارة في المواد الخام بين البلدان المتقدمة والبلدان النامية"، وقبلها من جامعة نانسي II بشهادة الدراسات المعمقة حول موضوع "الوظيفة الدولية لإيديولوجيا حقوق الإنسان"، كما أنجز عدة أبحاث ودراسات مركزة نشرتها عدة مؤسسات دولية مثل اليونسكو ودور نشر فرنسية منها L'harmattan في باريس. تولّى التدريس والبحث العلمي منذ 1987 بداية بالمركز الوطني لتنسيق وتخطيط البحث العلمي والتقني، ثم كلية الحقوق في المحمدية بين 1993 و2012 قبل الانتقال للتدريس في كلية الحقوق في السويسي. عمل أيضا مستشارا لدى وزارة حقوق الإنسان، ومؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين في الخارج. وشارك في عدد من المنتديات الدولية في نيويورك، وجنيف، وغرونوبل، وبيرن، وبروكسيل، ودمشق، ولاغوس. اكتسب سمعة وطنية ودولية في مجال القانون الدولي. وساهمت ألمعيته الذهنية في الحصول على شهادة تدريب المدربين في القانون الدولي الإنساني في دورتين، بدلا من ثلاث، خلال الدورة التي نظمتها اللجنة العربية الإقليمية التباعة لجامعة الدول العربية في العامين الماضيين.
التقينا أخر مرّة في تونس خلال الندوة الدولية التي نظمها المعهد الألماني لدراسات حوار الحضارات ومركز الجزيرة للدراسات. كان من خيرة المتحدثين خلال النقاش بين 39 من المشاركين حول تحديد سبل برغماتية تساعد على ترجمة فلسفة حوار الحضارات، التي تبنّتها الأمم المتحدة منذ 2001، إلى نسق سياسي ودبلوماسي دولي متكامل قد يرسي دعائم مشروع نظام عالمي جديد في المستقبل إذا تراجعت سياسة القوة وطغيان الواقعية السياسية على العلاقات بين الدول.
الدكتور بن مخلوف: هنيئا مجدّدا على الوسام والاستحقاق الوطني الممتاز بانتظار استحقاقات دولية في احتفاليات قادمة بإذن الله!
إسلاميو المغرب: هذا مفهومنا للدولة الإسلامية وهذه أسانيده
إسلاميو المغرب أبدعوا مقولة "الدولة الإسلامية قائمة"
هل يملك إسلاميو المغرب رؤية للإصلاح الاقتصادي؟