في قرار ليس مفاجئا، أغلق الفنان والمقاول محمد علي صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي، معلنا للشعب اعتزاله الحياة السياسية والثورية وانسحابه من المشهد الذي لم يكمل فيه إلا أقل من عام، تحديدا منذ النصف الأول في عام 2019، وذلك بعدما صنع حالة من الحراك السياسي والإعلامي والثوري داخل البلاد وخارجها، وبعدما فتح باب الأمل من جديد لدى الشعب في إعادة مشهد ثورة يناير المجيدة، وبعدما استطاع أن يفضح النظام وينشر الوعي المجتمعي بأسلوبه الشعبي البسيط، ليكون الأقرب لرجل الشارع من تلك النخبة التي فشلت لسبع سنوات كاملة في أن تصنع ما صنعه، بإعلامها ودعاتها ونخبتها ومفكريها مجتمعين.
لم يدع في تلك الفترة البسيطة أنه سياسي أو مفكر أو قائد أو منظر ثوري، إنما تقدم لفئة كبيرة من المجتمع تمثل الشريحة الأكبر به. يتحدث بعفوية، لا يفهم أسئلة بعض المذيعين وقد يجيب عنها بإجابات خارج إطار السؤال الغامض بالنسبة له، في الوقت الذي يلقي المشاهد والمتابع اللوم علي السائل والمحاور وليس عليه.. أثار جدلية نخبوية على مستوى قمة الهرم الثقافي، وأحدث ارتياحا داخل الأوساط الشعبية.. نشر في البلاد الوعي بالفساد غير المسبوق، وأجبر النظام على الاعتراف بفساده في بناء القصور.. أنهك الأمن
المصري بإعلانه عن النزول أكثر من مرة، ثم فجأة يعلن اعتزاله، حسبما أشار أكثر من مرة إلى أنه إن لم ينجح في كانون الثاني/ يناير فسوف يعتزل تماما ويترك الأمر لأنه اختيار الشعب الذي لم يستجب.
وخرج محمد علي عبر صفحته للمرة الأخيرة ببيان لم تهتم بنقله سوى قناة الجزيرة، بينما انشغلت قنوات ما يسمى بالشرعية بالسخرية وإطلاق سيل من الاتهامات للرجل الذي تجرأ على الحلم وفشل، فاتُهم من صدّقه بالسذاجة في الوقت الذي كانت هذه القنوات تتبارى فيه لعقد اللقاءات معه واستنطاقه عن خطته لتحريك الجماهير، وإعلان الانضمام إليه ومؤازرته.
فهل حقا فشل محمد علي في مهمته الثورية التي ظهر من أجلها؟ هل فشل في معركة التوعية بفساد النظام الحاكم؟ هل يمكن الحكم على الشارع المصري بأنه كما هو قبل أن يظهر محمد علي في المشهد؟
فضح الفساد ونخبة الخارج
منذ سبع سنوات فشلت كافة الجهود، وكافة المبادرات، في جمع من فرّقتهم الثلاثين من حزيران/ يونيو وجمعتهم محنة الانقلاب في الخارج؛ مطاردين باحثين عن مأوي آمن ليقودوا منه الحراك الداخلي، ويحركوا القضايا الدولية وتعريف المجتمع الدولي بجرائم الانقلاب، خاصة بعد مذبحة رابعة والنهضة التي قام بها العسكر في بداية حكمهم.
واستمرت الفُرقة بين العائدين من معسكر الانقلاب نادمين، وبين أصحاب الشرعية، ولم تفلح أي محاولة لصنع التقارب، وتجمدت الأمور في 2015 بعد قرار وقف الحراك الداخلي بعدما كاد يصل لاعتصام ببعض الأحياء الكبري، ليسود الصمت التام معارضي الخارج رغم رسائل الاستغاثات اليومية في المعتقلات، منها استغاثة الرئيس الراحل محمد مرسي الذي ظل يصرخ بها قائلا: أنا مهدد، ليخرج التصريح العجيب من قيادات لندن على لسان إبراهيم منير: إننا قد احتسبنا الرئيس وإخوانه شهداء لله.. ويتم قتل الرئيس دون رد فعل يذكر على مقتله داخل قاعة المحكمة، ويُمنع الهتاف في حفل تأبينه بتركيا ليعود السكون مرة أخرى، ويتحمل الإعلام المتحدث بالشرعية الوزر الأكبر في أدائه، وتحويل القضية من فكرة الشرعية والثورة، لإعلام معارض هادئ لا يغير قناعة أحد، ولا يكشف نظاما، ليأتي محمد علي مؤخرا ويقلب الأوضاع، ويحيي الأمل في نفوس الجماهير التي تستجيب لندائه بعد أن فضح الفساد وأظهر كم البذخ والإنفاق في الوقت الذي تعاني فيه غالبية الشعب من الجوع ومر المذلة والحاجة.
انتشر بسرعة البرق بين فئات الشعب المطحون التي تلاحق صفحاته. ثم تم تنظيم مؤتمر للشباب بشرم الشيخ خصيصا للرد عليه والاعتراف بكل ما فضحه من فساد.. وسافر محمد علي في زيارات مكوكية بين لندن وإسطنبول ليعرض وثيقته التي توافقت عليها أطراف المعارضة في الخارج، ليكون أول من استطاع أن يجمعها منذ الانقلاب الغاشم، ويتم التوافق والاتفاق كما أعلن؟
وأعلنت جماعة الإخوان المسلمين موافقتها ومؤازرتها له في حراكه المرتقب في ذكرى ثورة
25 يناير، كما أكد في كل لقاءاته أن المعارضة والقادرين على تنظيم الحراك والحشد هم من سيقومون بذلك، وأنه سيعود بمجرد بدء الحراك لاتخاذ بقية الإجراءات والتي أتت في وثيقته المتفق عليها فعليا.
هل تم إفشال محمد علي؟
تساؤلات كثيرة أطلقها النشطاء والمغردون في ليلة السادس والعشرين من يناير.. منها علي سبيل المثال: كيف تجاوب الشعب مع دعوات أيلول/ سبتمبر للنزول والحراك والتي لم يُعد لها مسبقا، ولم تدع لها أي من الجماعات أو الأحزاب أو قادة المعارضة؟ فقد نزل الناس الميادين رغم القبضة الأمنية الشديدة في حراك تفاجأ له محمد علي شخصيا، قائلا إنه لم يكن متوقعا استجابة الناس، ولم يكن يملك خطة لتوجيههم أو التواصل معهم أثناء النزول، فعادوا من حيث أتوا بعد اعتقال عدة آلاف منهم؟
ومنذ ذلك الحين وهو يعد لثورة موسعة، ويعقد اتفاقات ويقوم باتصالات استطاع خلالها أن يجمع الشتات علي المستوى النخبوي، وأن يصل التريند نازلين 25 كانون الثاني/ يناير للأول في مصر قبيل موعد ذكرى
الثورة. أي أنه على المستوى الشعبي كان هناك تجاوب شعبي وشبابي مع دعوات النزول. تجاوبت قنوات المعارضة في تركيا وبدأت في الحشد على استحياء بعد إعلان القيادات المشاركة أيضا على استحياء.. وتبارت القنوات في استدعائه وعمل اللقاءات الصحفية في شبه تحقيق أمني، لتكون المفاجأة أنه لم ينزل أحد، فأين الذين تجاوبوا مع دعوته منفردا من قبل؟ لا أحد يدري، ولا أحد يصدق أن تلك الدولة المشحونة بالغضب لا يستجيب منها فرد واحد لفرصة كتلك كان من الممكن أن تنقل الصراع لمنطقة أخرى.. منطقة تحتل فيها قوى المعارضة مكانة أعلى وأقرب للشعب وأكثر تحيزا له.
وفي ذات اللحظة التي كان يعلن فيها تنحيه واعتزاله للمشهد، دخلت تلك القنوات في حالة من الهجوم غير المبرر، متهمة إياه بالفشل؛ وتابعيه ومصدقيه بالسذاجة. فأين تلك السذاجة حين أعلن الجميع قبول الوثيقة؟ وأين كانت تلك السذاجة حين تنافسوا على اللقاء به؟
هل تموت الثورات بغير رجعة؟
قد تموت الثورات إذا ماتت في قلوب الشعوب، لكن ثورات الربيع العربي التي اشتعلت منذ كانون الأول/ ديسمبر 2010 في تونس لم تمت، ولم تخمد جذوتها المشتعلة، ولم يتوقف التآمر عليها وإنفاق المليارات في سبيل إفشالها،. إن ثورات الربيع العربي تمتد وتنتقل من قُطر إلى قُطر يجاوره، ومن شعب إلى شقيقه، والهتاف يُتبادل في انتفاضات الشعوب في لبنان والجزائر والعراق والسودان.
كان الثائر المصري ينتظر في ذكرى ثورته العظيمة لينتفض، غير أن نخبته لم تؤمن بعد بقدرته على صنع المعجزة مرة أخرى، فاختلفت في كل ما يخص الثورة واتفقت فقط على إفشال دعوة محمد علي الذي خرج من رحم الانقلاب وثائرا عليه.. فاتفق الجميع على ألا يتفقوا، واتفق الجميع على الفشل، واتفق الجميع على القبول بورقة تسمى بوثيقة، دون أن يعملوا على تحقيقها، وتركوا الرجل وحده ليثبتوا له أنه غير قادر على تحريك الشارع من دونهم. فهل كان القرار عقابا له، أم عقابا للشعب الذي استجاب للنزول في أيلول/ سبتمبر؟ أم هي أقنعة تساقطت حين حاول أحدهم وحقق ما لم يحققوه؟
إن مصيبة الشعب المصري اليوم في نخبته كما كانت دوما، لكن كل من اتفق على إفشال الرجل، سواء من الآلة الإعلامية الانقلابية التي احتفلت بالأمس، أو الإعلام المعارض الذي كال له الاتهامات.. ولم يعلموا أن الثورة ليست يوما، وأن سقوط الانقلاب لن يتحقق في يوم، وأن كل دعوة للنزول أو إظهار لفساد النظام هي خطوة على طريق الخلاص منه.
إن الثورات لا تنجح بالضربة القاضية، والشعوب لا تتحرك بدون رؤية. لقد تغير العقل الجمعي المصري والعربي كثيرا، فصار عصيا على الانسياق خلف كل دعوة، فلن يتحرك إلا حين يطمئن لحقيقة أن هناك قيادة واعية تحركه.. هذه القيادة ليست هي التي تملك المال أو الإعلام، وإنما هي التي يحكمها الصدق والإخلاص والنزاهة والتجرد. لا يهم أن تكون قيادة على الأرض، فالخميني صنع ثورة في المنفي، واستقبله الشعب استقبال القديسين.
إن الشعب المصري أصبح من الوعي بمكان يستطيع من خلاله أن يفرز القيادات في الداخل والخارج، ويفرق بين الغث والثمين، والصادق والمزيف، وأصحاب القضايا وأصحاب المآرب. لقد صدق محمد علي حين فضح النظام، وصدق حين دعا الناس للنزول، وصدق حين اعترف بإمكاناته البسيطة، وصدق حين انسحب من المشهد عندما لم يجد مردودا كافيا لدعوته دون أن يكشف اللثام عن أولئك الذين وعدوه ولم يفوا بالوعد.. صدق واعترف بفشله، فهل يفعلها الفاشلون المتربعون على عرش المعارضة في الخارج منذ سنوات، ويعلنون فشلهم وينسحبون من المشهد ليعطوا الفرصة للشباب كي يقود ويصلح ما أفسدوه؟..