الاتفاق التركي الروسي بشأن
إدلب أثار كثيرا من الأسئلة بدلا من الإجابة عليها، وفتح أبوابا للجدل بدلا من أن يغلقها. برأيي هو اتفاق يؤكد أن الطرق ليست مُعبدة، بل طويلة مليئة بالمطبات والصعاب، مما يجعله اتفاقا هشا لن يصمد كثيرا.
قمة بوتين- أردوغان التي توجهت إليها كل الأنظار واستغرقت قرابة ست ساعات من المباحثات والنقاشات، حافظت على العلاقات المشتركة بين البلدين حسب تصريحات مسؤولي البلدين، لكن من جانب آخر دارت في ظل تصاعد كاد أن يتحول لصدام مباشر، خاصة بعد أن فقدت المعارضة السورية السيطرة على مدينة سراقب في الأمتار الأخيرة قبل ذهاب الرئيس التركي أردوغان لروسيا.
البعض رأى الاتفاق انتصارا لروسيا، والبعض الآخر يراه انتصارا لتركيا في ظل المعطيات الأخيرة على الأرض.
وبحسب بيان وزارة الدفاع التركية، فإن وقف إطلاق النار يشمل الهجمات الجوية والبرية، بهدف منع وقوع مزيد من الضحايا المدنيين وتجنب موجات نزوح جديدة، وإعادة الحياة لطبيعتها في إدلب.
ولمعرفة تلك الأهمية لمدينة إدلب فهي آخر المعاقل الرئيسية لفصائل المعارضة السورية، وتتمتع بأهمية استراتيجية بالغة. فهي من جهة محاذية لتركيا الداعمة للمعارضة، وكذلك محاذية لمحافظة اللاذقية معقل الطائفة العلوية التي ينتمي إليها بشار الأسد. كما أن مركز مدينة إدلب لا يفصله عن طريق حلب- دمشق سوى 20 كم.
في البداية يجب التأكيد على أن
تركيا تدرك تماما خداع الروس، وتدرك أيضا أن الغزو الروسي لسوريا لا يختلف عن الغزو الروسي لأفغانستان في السابق. وسنورد في نهاية المقال خسائر الجيش الأحمر السوفييتي في أفغانستان.
وما يردده بوتين عن نغمة الحرب ضد الإرهاب ليس إلا للخداع فقط ولذر الرماد في العيون. فواقع الحال منذ التدخل الروسي في
سوريا عام 2015 ووصوله للتواجد المباشر على الأراضي السورية، أن
روسيا حاولت لعب دور الدولة العظمى ذات الأذرع الطويلة، والنفوذ الواسع رغم الصعوبات الاقتصادية التي تعاني منها.
روسيا ومنذ اليوم الأول عملت على طرد كل فصائل المقاومة والمعارضة السورية من كل المناطق التي تسيطر عليها، وبمرور الوقت بدأت بطرح مشاريع سياسية لإعادة تأهيل نظام إجرامي متهالك كاد أن ينتهيف، من خلال القضاء على مقررات مؤتمر جنيف. ونجحت في ذلك عبر مساري أستانا وسوتشي تحت شعارات "خفض التصعيد" بقصد الإجهاز على كل فصائل المعارضة السورية المسلحة.. واستمر الخداع الروسي، واستشرى السم بين بعض الفصائل التي قبلت بالطرح الروسي!
المؤكد أن الروس لم يكونوا يستطيعون السيطرة على سوريا عبر التدمير الشامل فقط، لأنهم يذكرون جيدا ما حدث لهم في الشيشان بين عامي 1994-1996، فخسروا عشرات القتلى من الجنود، وهو ما أجبر الرئيس الروسي حينئذ بوريس يلتسين على توقيع معاهدة سلام وهدنة، وانتظر الفرصة المواتية لينقض مرة أخرى على الشيشان عام 2000، ويعين نظاما مواليا له.
وهنا يجدر بنا أيضا استعراض كيف بدأت خطط خداع "مناطق خفض التصعيد" في أيار/ مايو 2017. فقد وقعت روسيا وتركيا وإيران بمدينة أستانا اتفاقية تنص على إنشاء ما سمي وقتها بمناطق خفض التصعيد، فتم وضع تسع محافظات سورية تحت سيطرة النظام، وهي دمشق وريفها، وحلب، وحمص، وحماة، وإدلب، واللاذقية، ودرعا، والقنيطرة".
وتضمن الاتفاق وقف إطلاق النار بين المعارضة والنظام، تمهيدا لحل سياسي مزعوم وقع ضحيته العديد من فصائل الثورة، ومنذ تلك اللحظة تم بدء تنفيذ المخطط الشيوعي. وبعد القضاء على داعش بمساعدة كل الأطراف بما فيها التحالف الدولي في ذلك الوقت، لم ينس الروس هدفهم الأساسي وهي مناطق خفض التصعيد، ثم تحرك الجيش الروسي لمناطق سيطرة المعارضة، وقام بقصف المدن والمناطق المأهولة بالسكان بعد استفراده بكل بلدة على حده.
في هذا الوقت كانت بعض فصائل المعارضة تنتظر دورها في الذبح، وشنت روسيا والنظام حملة على الغوطة الشرقية (إحدى مناطق خفض التصعيد)، ولم تبد بعض الفصائل وقتها أي ردة فعل لهذه الخروقات الروسية، وظلت ملتزمة بوقف إطلاق النار لدرجة أن سقوط الغوطة الشرقية لم يستغرق سوى شهرين، وهي المنطقة التي تمتلك خزانا بشريا وعتادا عسكريا كبيرا.
وبعد السيطرة على الغوطة توجه الروس لريف حمص الشمالي، وأجبرت فصائل المعارضة على طلب التفاوض الذي انتهى بالاستسلام وسيطرة النظام عليها بدون قتال في أيار/ مايو 2018.
وفي درعا ظنت بعض الفصائل هناك أنها بمأمن عن مصير من سبقوها في غرفة "الموك" والولايات المتحدة الأمريكية، لكن حشود مليشيا إيران وحزب الله اللبناني وعناصر الأسد توجهت نحو درعا، بدعم من غارات جوية روسية انتهت بالسيطرة على درعا في تموز/ يوليو 2018، على الرغم من وجود قرابة عشرة آلاف مقاتل بصفوف المعارضة المسلحة.
وبذلك التهمت روسيا مناطق خفض التصعيد واحدة تلو الأخرى خلال سنة واحدة، ومن ثم بدأت بحشد قواتها مع مليشيات إيران وحزب الله على تخوم إدلب، مع شن مئات الغارات الجوية على مدن المحافظة وريفها. في ذلك الوقت كانت إدلب بمثابة الخزان الذي تجمعت فيه كل الفصائل المعارضة، والتي كانت تسيطر على كامل المحافظة باستثناء جزء من ريفها الشمالي، وجزء من ريف حماة الشمالي والغربي، وريف حلب الغربي وأجزاء من ريفها الشمالي والجنوبي، وجزء من اللاذقية. ولأن جعبة روسيا لا تنفد من الحيل، قامت بالتوقيع مع تركيا في أيلول/ سبتمبر 2018 في سوتشي على اتفاق جديد شمل عدة بنود، أهمها إنشاء منطقة عازلة منزوعة السلاح في إدلب وأجزاء من ريفي اللاذقية وحماة.
وكما جرت العادة لم تنفذ روسيا التزاماتها، وواصلت قصف المدن والقرى وحشد المليشيات الشيعية على تخوم إدلب. وفي نيسان/ أبريل 2019 أعلنت روسيا عملية عسكرية للسيطرة على إدلب، ولكن في تلك المرة اختلفت الأوضاع في ظل سقوط مئات القتلى والجرحى من عناصر الأسد والمليشيات التابعة لها. هنا بحثت روسيا عن خدع وحيل جديدة كتحييد بعض المناطق وتفريق الفصائل، وعرض الهدنة على بعض وجهاء المناطق وإغرائهم بمساعدات بغرض إبعادهم عن المعركة.
وبعد استعراض بعض المحطات الفارقة في مسلسل الخداع والدمار الروسي، نعود لما بدأناه لنؤكد على أن الاتفاق الأخير بين أردوغان وبوتين ما هو إلا بداية العودة للخداع الروسي، ولكن وبعد دخول تركيا المعارك مباشرة عقب استشهاد الجنود الأتراك وإعلان وزارة الدفاع التركية عن عملية درع الربيع، أعتقد أن تركيا لن تقع فريسة للخداع الروسي مرة أخرى، خاصة في ظل استمرار تركيا إرسال قوات ومعدات عسكرية، وامتلاكها طائرات مسيرة أثبتت قدرات فائقة وحققت بالفعل نتائج مبهرة، وتستخدم في مهام المراقبة والاستخبارات والضربات الدقيقة.
وحتى لا ننسى وحشية وجرائم الجيش الأحمر السوفييتي في أفغانستان، والتي راح ضحيتها أكثر من مليون قتيل من المدنيين وما يزيد عن ثلاثة ملايين جريح ومعاق، في ظل مواجهة ومقاومة صلبة من قبل الشعب الأفغاني ومحاربة السوفييت على الأرض الوعرة من الشمال للجنوب. فالأفغان يعرفون كيف يطيلون الحرب ويستزفون العدو حتى تحقيق النصر عليه. وبحسب الأرقام الرسمية للاتحاد السوفييتي فإن الجيش الشيوعي فقد 13621 جنديا، وهذا يعني مقتل 4 جنود يوميا، ووصل عدد الجرحى والمصابين من الجيش الأحمر 470 ألف من أصل 620 ألف عسكري روسي شاركوا في الحرب.
ولم تتوقف خسائر الروس على هذا فقط، بل خسروا 451 مروحية، و147 دبابة، و443 مدفعا، مما أدى لإضعاف السوفييتي عسكريا واقتصاديا، ولم يدم الاتحاد السوفيتي طويلا بعد هذه الحرب بعد أن فقد احترامه، ومكانته، وهيبته، عقب الهزيمة النكراء في أفغانستان. واليوم وبعد سنوات من الاحتلال الروسي لسوريا هل سنشهد المصير ذاته بانتظارهم؟