كتب كثيرون عن سد النهضة، خاصة بعد هذا
الفشل الذريع الذي أصاب النظام الانقلابي في
مصر، وبعد التعنت الإثيوبي الذي عبر عن موقف أكد فيه على أحقية إثيوبيا في بناء السد والفراغ منه، وكذلك عملية ملء السد بالمياه، وهو أمر يؤثر يقينا على حصة مصر المائية.
ومع هذا المشهد، تذكرت كيف يتعامل النظام الانقلابي في مصر مع الأزمات التي تأتيه من هنا ومن هناك، وكيف أنه لا يجعل إلا من أمن السلطة هدفا له وبوصلة لسياساته ومواقفه، أما أمن الناس فهو المستباح والمستخَف به.
هكذا برز ذلك المشهد في صورة ازدحام عجيب تجبي فيه السلطة والنظام ألف جنيه لاستخراج شهادة خلو من "فيروس الكورونا". وبدا هذا المشهد يضم عدة مئات، بل ربما عدة آلاف في تزاحم شديد توحي بقدر كبير من الاستخفاف من الجانبين، من هذا الذي يقوم بالتحليل، وهذا الذي يطلب التحليل وتلك الشهادة. ذلك أن من أبسط القواعد في ذلك أن لا تكون هناك تجمعات كبيرة، فما بالك بإجراءات قد تؤدي إلى تجمعات مستجدة.
لا شك أن هذه المشاهد تعبر عن نموذج للاستخفاف بكل شيء.. بالقواعد وبالمرض. وقد أشرنا في مقالات سابقة إلى "طريقة الفكاكة والكوفتولجي" في مواجهة الأمراض ومواجهة الأزمات، نماذج من الاستخفاف غير مسبوقة. ونظن أن مشهد كورنا الأخير يعبر عن ذلك بامتياز، حينما يحاول النظام الانقلابي أن يعتم عن حال المرض طمعا في مزيد من سياحة أو رغبة في التأكيد على قوة نظام هو في حقيقة أمره احترف الفشل، فيعلن عن خلو مصر من الفيروس.
ويتخذ الفشل أشكالا كثيرة وألوانا متعددة، نظن أنها اختلطت بقدر كبير من فساد الرؤية ومن إملاءات الحالة الانقلابية على أهل الانقلاب وأصحاب المصلحة فيه، وفي اكتساب شرعنة زائفة، أو في تصوير صورة متوهمة لقوة وفعالية نظام بائس. ولكن الزيف لا تطول حباله، والكذب كما يقولون لا أرجل له، وغالبا ما تنفضح أحوال النظام أو تنكشف خيوطه، وهنا تختلط الأشكال والألوان من الفشل في حالات من التفريط، أو من التنازل أو خيانة الأمانة، لتقدم في ذلك متواليات من الفشل في السياسة الخارجية تعبر عن افتقاد الرؤية الاستراتيجية، حينما تكون الرؤية الطاغية هي الحفاظ على أمن الكرسي وشرعنة الانقلاب.
نقول ذلك لأن اختلاط هذه الأمور يعبر عن أن الفشل هو واحد من أهم تلك الخيانات، فالفشل خيانة حينما يكون بمقدورك تجنبه والعمل على عدم وقوعه. والفشل حالة إذا وقعت وجب الاعتذار عنها والبراءة منها، من دون أن تتملكنا روح التبرير والتغرير وعمليات التزييف على الحقيقة والتزوير.
نقول ذلك ليس فقط في سد النهضة، ولكن أيضا في تيران وصنافير، والتفريط في موارد مصر من الغاز التي شكلت سوابق للنظام تعبر عن حالة خيانة ممزوجة بالفشل. وفي واقع الأمر، فإن هذه الأمور جميعا يجمع بينها هذا الأمر الذي يتعلق بحالة الاستخفاف، وحالة خيانة الأمانة وحالة الفشل في تسيير الأمور.
وواقع الأمر أن هذه الأمور جميعا إنما تشير إلى عوارض لمرض صار يفسر هذا الاختلال الكبير، وهو أمر يتعلق بحالة السياسة المصرية الخارجية الإقليمية والدولية التي تفتقد إلى الرؤية والبوصلة. وقد أصاب وأفاد في ذلك مقال مهم كتبه أستاذ في العلوم السياسية قدير، على صفحته، عبّر فيه عن أصل ذلك المرض الذي أورثنا هذه الأعراض الكثيرة، والتي تعبر عن اختلال أساسي في الرؤية والبوصلة والمهمة والوظيفة. وقد أرجع ذلك لأسباب عديدة؛ فكما أكدنا في هذا السياق، الجامع بين كل ذلك هو خلق التنازل والتفريط وخلق الاستخفاف والاستهانة، وخلق الاستسهال إلى حد الاستهبال، وهو أمر تختلط فيه الإهانة بالمهانة والهوان بالإهانة والفهلوة بالفكاكة. إنها منظومة فرعونية بالأساس واستبدادية بالجوهر وانقلابية في الشكل والخطاب، عنوانها الزيف، وطريقتها الافتراء وترويجه، وصولجانها الطغيان وحالة الاستبداد وتمكينه. وما نرى ذلك إلا في انقلاب الكلمات والخطاب المموه والزائف؛ فيسمى التنازل حنكة ومهارة، والتفريط في الأرض عودة لحقوق، والتنازل في الموارد حفاظ على علاقات وأمن قومي، أما من عارض فهو خائن غير وطني ومن أهل شر لا يكلون عن ترديد افتراءات، فلا يعرفون للوطنية معنى ولا للدولة هيبة. هكذا يبدو الأمر في هذا الشأن ضمن عملية استخفاف كبرى ديدنها التعتيم وجوهرها التزييف والتزوير.
تذكرت كل ذلك وتذكرت الفارس الدكتور السفير المجاهد إبراهيم يسري رحمة الله عليه، الذي جمع في نشاطه الدائب لكشف المستور، برفع القضايا على من يمثل الدولة أمام القضاء الإداري ومجلس الدولة، للدفاع عن حقوق مصر التأسيسية في مياه النيل وغاز مصر ومواردها وأرض مصر الوطن، بعد التنازل عن تيران وصنافير. هذا الفارس الذي جمع في جعبته كل ذلك إنما كان يشير ومن كل طريق إلى ذلك الاختلال الفادح في السياسات والمواقف حيال هذه القضايا المصيرية، مؤكدا أن من يمثل الدولة في ذلك الشأن إنما هو من استخف وفرط وتنازل وباع.
ثم كان تطور الأحداث في مسألة سد النهضة وتلك البيانات الهزلية التي تخرج من الخارجية المصرية والإشارة إلى الحالة التفاوضية، وأن إثيوبيا قد نكصت بعهودها. فلنتذكر مشاهد فرحة عارمة عبر عنها المنقلب بعد اتفاقه على اتفاق مبادئ شرعن لإثيوبيا حقا في بناء السد وملئه، ووقع على جملة من المبادئ الفضفاضة والكلمات غير المحددة، والتي لم تكن إلا الفخ الذي أوقع مقدرات مصر المائية في شرك مفاوضات ممتدة ومتتالية، ووساطات هشة لم تكن في المبتدأ إلا تعبيرا عن تنازل ارتكبه
السيسي، ومشهد ممارسات هزلي حينما أخذ يلقن "آبي أحمد" رئيس وزراء إثيوبيا قسما بالعربية ليردد خلفه أنه لن يضر بمصر.
نقول وبأعلى صوت وفي إطار عبقرية فشل احترفها النظام الانقلابي إن هذا ليس بتفاوض وتلك ليست بسياسة، إن التفاوض أوراق قوة يمكن أن تجلس بها على مائدة المفاوضات، وليست تنازلات ثم ولولة وصراخ. وكذلك فإن السياسة ليست استجداء بسماجة لقسم لا يغني ولا يسمن من جوع في مجال السياسة والحقوق.
وواقع الأمر أن ذلك تكرر كما قلنا في تنازل وتفريط عن أرض الوطن في تيران وصنافير، وعن غاز مصر ومواردها. وضمن هذه السياقات فإن الأمر يتعلق بكل هذه الإخفاقات، بما يعبر عن اختلال من جراء تلك الحالة الانقلابية التي صارت في أضعف حالتها عند التفاوض ضمن مساومات ومقايضات على شرعنة هذا النظام.
ومن هنا نرى أن ما يحدث هو من النتائج المنطقية التي ترتبت على مقدمات تفريطية تؤكد أن السياسة الخارجية فاقدة للقوة ومتآكلة في التأثير، والنظام وجوقة مؤيديه لا يفتُرون في ترديد افتراءاتهم وإطلاق الأوصاف السخيفة والمستخفة في حق من يعارضونه.
يا سادة، فلنسمّ الأشياء بمسمياتها.. إنها خيانة الأمانة في أفجر صورها وادعاء مزيف بالشرف والنزاهة في أحط أشكالها. ومن هنا كانت تلك السياسات المهينة والفاشلة والمتنازلة والمفرطة ليست إلا خيانة حقيقية للأمانة والوطن.. يا سادة حاسبوا من يستحق الحساب، ومن سعى مستخفا بالتهاون والتفريط والتنازل والخراب.