كرست تفاعلات الحرب والسلام والقانون الدولي وتطوراته - عبر عدة قرون- نظاما دوليا مسيطرا على، وضامنا لـ(الامن والسلم) العالميين، وذلك حسب موازين ومصالح الدول العظمى في مختلف الفترات، وأُنشئت - تتويجا لذلك- مؤسسات تعبر عن موازين القوى، بل وتضمن استمرار تفوق تلك القوى التي رسمت ذلك النظام. ورغم التغييرات الكبيره التي حصلت في اواخر القرن الماضي - وعلى راسها تفكك الاتحاد السوفياتي واعادة توحيد المانيا، وما سبقها وتلاها- الا ان النظام الدولي حافظ على شكله الى حد كبير جدا، خصوصا ما يتعلق بالعنصر الاكثر تاثيرا وهو (مجلس الأمن الدولي) وخصائصه ومواصفاته وقدراته.
لقد شكّلت أزمة الرهن العقاري قبل اكثر من عقد، (2008)، اختبارا للنظام الدولي في مواجهته نموذج انهيار اقتصادي يتعلق في النظام البنكي والقروض والسلع الضامنة.. الخ، لكن هذه الأزمة التي كشفت تأثير الفارق الكبير بين القيمة الحقيقية للموجود من الثروة مقابل القيمه المتداولة (والتي تصل الى بضعة اضعاف) على المنظومة الاقتصادية العالمية ضمن اقتصاد السوق، واكدت ضعف (او ربما تداعي) النظرية الرأسمالية، القائمة في احد جوانبها على الاستقلالية المطلقة عن الدولة، وعدم التدخل. غير ان هذه الأزمة (ولأسباب مختلفة ربما اهمها انها تتعلق بجانب محدد من الاقتصاد، تم تجاوزها بنفس ادوات اقتصاد السوق، لكن بعد تدخل الدولة داخليا وخارجيا) مضت دون ان تترك اثارا واضحة على بنية ونظريات النظام الاقتصادي، وهو ما كان واجبا من الناحية النظرية على الاقل، فضلا عن غياب تاثيرها على النظام الدولي.
أما الأزمة الاخرى، فقد نجحت القوى العظمى (الولايات المتحدة تقريبا) في فرض عدو محدد لمواجهته، والتصدي له، والانشغال به، او إشغال الأطراف به، الا وهو "الارهاب"، وهنا آلت الوقائع الى حصر المصطلح بالاسلام، حتى اصبح استخدام مصطلح "الإرهاب الإسلامي" مقبولا و متداولا لدى الدول والهيئات، (وربما باستثناء اعتراض من دولة او دولتين)، لقد تم تجنيد العالم وامكاناته في حرب "استعراضية في اغلبها" ضد عدو يعتقد الكثيرون انه عدو "مصنوع" وفرضت على مختلف الدول والاطراف اشكالا من المشاركة في هذه الحرب اقله الصمت. وهنا سجل النظام الدولي مرة أخرى، قدرة على تجاوز هذه (الأزمة!).
اليوم تبرز أزمة "انتشار فيروس كورونا" لتشكل تحد حقيقي للنظام الدولي، فلا هي أزمة محدودة جغرافيا، ولا متخصصة وحصرية في مجال او محور في حياة البشرية، لقد تعدّت "أزمة كورونا" الحواجز المفترضة، حسب نظريات العلاقات الدولية، والاتفاقيات المتعلقه بالنظام الصحي الدولي (رغم موضوعية تناول تلك الاتفاقيات لمثل هذه الازمة، لكنها المرة الاولى التي يكون فيها الاختبار جديا وخطيرا ويظهر الفشل في تطبيق تلك الاتفاقيات)، فلم يتوقف الفيروس عند حدود الجغرافيا، ولم يقف خطره عند ابواب العالم الاول المتقدم في كل شيء، ليمارس بطولاته فقط على فقراء افريقيا واسيا، كما هو معتاد، بل الذي يبدو هو العكس! كما انه لم ينحصر اثر تفشي الفيروس على تحدي النظم الصحية في الدول والعالم، بل انتقل الاثر ليشمل كل مناحي الحياة الانسانية، قارعا طبول الحرب؛ في ميادين الاقتصاد، مهددا بزلزال يصيب نظريات الاقتصاد واسس الانتاج والثروة المعولمة. وفي ميادين النظم السياسية ليهدد القيادات السياسية الاكثر يمينية، والتي طفت على السطح في العشرية الاخيرة، خاصة قادة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، فيكشف ضحالة شعورها بالمسؤولية، بل وعوزها المعرفي والمنطقي بشكل مخجل ايضا. اما الميدان العميق الذي يقرع انتشار الفايروس طبول ايقاظه، فهو ميدان "الاخلاق الانسانية"، وهو الميدان الذي تتداخل على ارضه جوانب الاقتصاد والانتاج، وتحدي المعيشة، كما النظم السياسية والعلاقات الدولية والاتفاقيات المختلفة، الى اخره.
لقد تمددت آثار ازمة كورونا لتشمل الجوانب المتعلقة بالنفط واسعاره، وجوانب النقل بأنواعه ومجالاته، والسياحة وشركات الطيران، ثم امتدت لتشمل جوانب الانتاج بكامله تقريبا، خاصه ما يتعلق بالصناعة، (ربما يتم استثناء الى حد ما، التجاره الالكترونية باعتبار ان هذه فرصه لهذه التجارة لتثبت نجاعتها وقدرتها على تخطي الحواجز، لكن اين ستكون التجارة الالكترونية، اذا توقف انتاج السلع او اذا تم حصر طرق توصيلها، فسيتم الشراء الكترونيا، لكن التوصيل سيحتاج بالضرورة وسائل النقل، سواء كانت بين الدول او حتى في داخل الدولة نفسها، مما سيعيده الى داخل مربع التأثر والشلل). لقد اوشكت ازمة انتشار كورونا ان تمس جميع انظمة الحياة، ما يهدد بتدميرها او بانهيارها، بدءا من المنظومة الصحية التي تتعرض مكوناتها للانهاك والعجز، وتتعرض اركانها الاساسية المتعلقة بطواقم التمريض و الطواقم الطبية الى تحدي الاصابة بالفيروس، كما انها مست منظومة الاقتصاد و منظومة التجارة، بل حتى منظومة العلاقات الاجتماعية ، و منظومات اخرى تتعلق بكافة مناحي الحياة كما سبق واسلفنا.
لقد تدخلت ازمة كورونا في كل جوانب حياة الانسان في القرن الحادي والعشرين وتعمل على التاثير في كل هذه الجوانب بشكل ما. صحيح ان هذا التأثير يعتمد على خصائص وامكانات كل مجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمالية، وغير ذلك. الا انها لم تستثن ولا يمكن ان تستثني احدا او طرفا او جانبا من جوانب الحياة كما يظهر ونحن ما زلنا في بداية الازمة ربما، اذا المستقبل يفرض ان نتوقع آثارا اخرى وجوانب اخرى.
لقد فرضت تطورات الأزمة وخارطة تنقلها وتوسعها، مقارنات متعددة بين نموذج مغلق يتصف بالاستبداد والسيطرة، نجح في احتواء الازمة (الصين) ونماذج ديموقراطية ليبرالية، فشلت عدة مرات على صعيد الوصف البسيط وصولا الى ما يشبه الاستسلام، مرورا باخفاق اخلاقي داخل وخارج الدولة، (كما في انجلترا وايطاليا والولايات المتخدة وغيرها) ، ما جعل من سؤال جدوى الديموقراطية حاضرا ، وسؤال اخلاق نظم الاقتصاد الحر وقيمتها للانسانية، وغير ذلك من الاسئلة الحرجة التي تشكل رصاصات في قلب النظام الذي تشكل عبر قرون من تفعيل ادوات القوة والتأثير الخشن والناعم باشكالهما.
قد يكون من المبكر الحديث عن استبدال، بعد سقوط المنظومة الدولية بما تحويه من قوانين وعلاقات دولية، وبما نتج عنها من تطورات الى العولمة الشاملة (والتي قد تكون منحت لأزمة كورونا تسهيلات ما!) . لكن مما لا شك فيه ان ازمة كورونا بما تمثله من عمق حقيقي ليس استعراضيا وليس مصنوعا ، ويمس مناحي الحياة جميعها ويضعها على محك التحدي؛ قد تشكل موجه تسونامي اساسية ومهمة في التغيير، لكنها ربما ليست ماحقة للمنظومة القائمة والمسيطرة ، بل قد تمنح فرصة اكبر لانهيار هذه المنظومه (الفاشلة والمنحازة ضد قيم الانسان) واستبدالها؛ وذلك عند تعرضها لازمة جديدة او اثنتين ، قد تكون عمليات تلوث كارثي للبيئة احداها.
وهنا لا بد من الاشاره ان الصين برزت في مختلف المحطات المشار اليها، حالة متميزة عن النظام الدولي المسيطر والمتمثل بالغرب بقيادة الولايات المتحدة الامريكية ، سواء في ازمة الرهن العقاري الذي كانت الصين اقل تضررا رغم ضخامة اقتصادها ورغم علاقاتها الاقتصادية مع الولايات المتحدة نفسها بؤرة تلك الازمة، او في قضية الحرب على الارهاب والتي قاومت الصين الاغراءات الضمنية لاستخدام الحرب على الارهاب لحماية مخططاتها في اقامة مشروعها العملاق؛ مشروع الحزام والطريق، فلم تاخذ الامر على محمل الاجراء الجدي. كما قاومت الاغراق في هذا الملف ملف محاربة الارهاب، مكتفية باظهار صلابة وقسوة تجاه اي محاوله لاشغالها عن مشروعها العملاق، وتجاهلت الإثارة الاعلامية لقضية المسلمين عندها، كما تجاهلت موضوع الروهينجا في ميانمار.
اما على صعيد ازمة الكورونا، فقد ظهرت بشكل جلي قدرة الصين على محاصرة الازمة عندها نفسها، لتقدم نموذج المساعدة والاستعداد لتقديم الخبرة للدول الاوروبية التي تخلت عنها منظومتها في اوروبا او في الغرب عموما. وشكلت ازمه كورونا التي ربما نظر لها البعض كتهديد للصين، شكلت لها منصة قدمت نفسها باعتبارها رائدة في التصدي للازمة من جهة، و رائدة في نموذج انساني يقدم المساعدة ويهتم بالمنظومة الدولية والقيم الانسانية من جهة اخرى.
الامر الذي ينقل الى السطح توقعات واستشراف لمفكرين او حالمين، منذ عقود، بحتمية انتقال ثقل السلطة والقوة من الغرب الى الشرق من جديد، في دورية بندولية يؤمن بها كثيرون سواء من الفلاسفة او اصحاب الفكر والراي، سمعناها نحن وقرأنا عنها منذ ثمانينيات القرن الماضي، تؤكد ان الغرب قد استنفذ دوره ولا بد من عودة الحضارة والسلطة الى الشرق!
فهل سيكون الشرق في هذه الدورة هو الصين؟ أم ان المنظومة الدولية ستصمد لازمات جديدة، وتصلح اشكالياتها ذاتيا؟ او ان السلطة والثقل القيمي والحضاري سينتقل في دورته الجديدة الى اطراف اخرى ليست في الغرب المتمثل في امريكا واوروبا، وليست في الشرق متمثلة في الصين؟ لا ندري لعل الازمات القادمة تنبئ عن اتجاهات التغيير، ومواطن تمركز السلطة والحضارة من جديد.